فَلَمْ يَنْهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بِرِّهِمْ وَالْإِقْسَاطِ إِلَيْهِمْ، وَقِسْمٌ غَيْرُ مُسَالِمٍ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَيُظَاهِرُ عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِذْنِ بِالْبَرِّ وَالْقِسْطِ، وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الْمُوَالَاةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّقْسِيمِ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ قَرَائِنَ، وَهِيَ عُمُومُ الْوَصْفِ بِالْكُفْرِ، وَخُصُوصُ الْوَصْفِ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَإِيَّاكُمْ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِخْرَاجَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَارِهِمْ كَانَ نَتِيجَةً لِقِتَالِهِمْ وَإِيذَائِهِمْ، فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ مُوَالَاتِهِ لِمَوْقِفِهِ الْمُعَادِي؛ لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ تُنَافِي الْمُوَالَاةَ.
وَلِذَا عَقَّبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأَيُّ ظُلْمٍ بَعْدَ مُوَالَاةِ الْفَرْدِ لِأَعْدَاءِ أُمَّتِهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْعَامُّ وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَادُوا الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ لَا بِقِتَالٍ، وَلَا بِإِخْرَاجٍ، وَلَا بِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَا ظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ جَانِبٍ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلْمُوَالَاةِ لِكُفْرِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَا يَمْنَعُ بِرَّهُمْ وَالْإِقْسَاطَ إِلَيْهِمْ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَ فِيهَا جَدِيدُ بَحْثٍ بَعْدَ الْبَحْثِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَبَقِيَ الْبَحْثُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَمِنْ جَانِبَيْنِ: الْأَوَّلُ: بَيَانُ مَنِ الْمَعْنِيُّ بِهَا، وَالثَّانِي: بَيَانُ حُكْمِهَا، وَهَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَمْ نُسِخَتْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْمَبْحَثِ وَحَاجَةِ الْأُمَّةِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَشَدِّ مَا تَكُونُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِقُوَّةِ تَشَابُكِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ وَعُمْقِ تُدَاخُلِهَا، وَتَرَابِطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فِي جَمِيعِ الْمَجَالَاتِ، وَعَدَمِ انْفِكَاكِ دَوْلَةٍ عَنْ أُخْرَى مِمَّا يَزِيدُ مِنْ وُجُوبِ الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ.
وَإِنِّي مُسْتَعِينُ اللَّهِ فِي إِيرَادِ مَا قِيلَ فِيهَا، ثُمَّ مُقَدِّمٌ مَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ مَجْمُوعِ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّهَاُ مَنْسُوخَةٌ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ: أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ زَمَنَ الْمُوَادَعَةِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ، قِيلَ بِآيَةِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [٩ ٥] قَالَهُ قَتَادَةُ.