وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُهُ فِي قِصَّةِ الصِّدِيقِ لَمَّا أُخْبِرَ نَبَأَ الْإِسْرَاءِ، فَقَالَ: «صَدَقَ مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا: تُصَدِّقُهُ وَأَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ؟ قَالَ: إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».
فَلِعِلْمِهِ عِلْمَ الْيَقِينِ بِصِدْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُخْبِرُ، صَدَّقَ بِالْإِسْرَاءِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ.
وَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ الثَّانِيَةُ رُؤْيَةَ عَيْنٍ وَمُشَاهَدَةٍ، فَهُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَرَاتِبَ الْعِلْمِ الثَّلَاثَ: عِلْمُ الْيَقِينِ، وَعَيْنُ الْيَقِينِ، وَحَقُّ الْيَقِينِ.
فَالْعِلْمُ: مَا كَانَ عَنْ دَلَائِلَ.
وَعَيْنُ الْيَقِينِ: مَا كَانَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ.
وَحَقُّ الْيَقِينِ: مَا كَانَ عَنْ مُلَابَسَةٍ وَمُخَالَطَةٍ، كَمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْكَعْبَةِ، وَجِهَتِهَا فَهُوَ عِلْمُ الْيَقِينِ، فَإِذَا رَآهَا فَهُوَ عَيْنُ الْيَقِينِ بِوُجُودِهَا. فَإِذَا دَخَلَهَا وَكَانَ فِي جَوْفِهَا فَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ بِوُجُودِهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
أَصْلُ النَّعِيمِ كُلُّ حَالٍ نَاعِمَةٍ مِنَ النُّعُومَةِ وَاللُّيُونَةُ، ضِدُّ الْخُشُونَةِ وَالْيُبُوسَةِ، وَالشَّدَائِدِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [١٦ ٥٣].
ثُمَّ قَالَ: إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [١٦ ٥٣]، فَقَابَلَ النِّعْمَةَ بِالضُّرِّ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي [١١ ١٠].
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَدِيدَةٌ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [١٦ ١٨].
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا تُحْصُوهَا.
وَأُصُولُ هَذِهِ النِّعَمُ أَوُّلُهَا الْإِسْلَامُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [٥ ٣].
وَيَدْخُلُ فِيهَا نِعَمُ التَّشْرِيعِ وَالتَّخْفِيفِ، عَمَّا كَانَ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ.