وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ:
أَنَّ الَّتِي بَارَكْنَا صِفَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْأَرْضَ، أَوِ الْمُلْكَ. (مَا كَانَ يَصْنَعُ) :" مَا " بِمَعْنَى الَّذِي، وَفِي اسْمِ كَانَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ ضَمِيرُ " مَا " وَخَبَرُهَا يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: يَصْنَعُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْمَ كَانَ " فِرْعَوْنُ "؛ وَفِي يَصْنَعُ ضَمِيرُ فَاعِلٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أَنْ يَعْمَلَ فِي فِرْعَوْنَ فَلَا يُقَدَّرُ تَأْخِيرُهُ، كَمَا لَا يُقَدَّرُ تَأْخِيرُ الْفِعْلِ فِي قَوْلِكَ قَامَ زَيْدٌ.
وَقِيلَ: " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ، وَ " كَانَ " زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ زَائِدَةً، وَلَكِنَّ " كَانَ " النَّاقِصَةَ لَا تَفْصِلُ بَيْنَ " مَا " وَبَيْنَ صِلَتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [الْبَقَرَةِ: ١٠]. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَحْتَاجُ " كَانَ " إِلَى اسْمٍ، وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي بَعْدَهَا صِلَةُ " مَا " فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّفْسِيرِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهَا الْإِيضَاحُ وَتَمَامُ الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْمُفَسَّرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، فَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى أَنْ نَجْعَلَ فِرْعَوْنَ اسْمَ كَانَ، وَفِي " يَصْنَعُ " ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ. وَ (يَعْرِشُونَ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ، وَكَذَلِكَ (يَعْكُفُونَ) وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فِيهِمَا.
قَالَ تَعَالَى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (١٣٨).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) : الْبَاءُ هُنَا مُعَدِّيَّةٌ كَالْهَمْزَةِ وَالتَّشْدِيدِ؛ أَيْ: أَجَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ وَجَوَّزْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) : فِي " مَا " ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِلَةٌ لَهَا، وَحَسَّنَ ذَلِكَ أَنَّ الظَّرْفَ مُقَدَّرٌ بِالْفِعْلِ.