وَالثَّالِثُ: أَنَّ كَادَ أُخْرِجَتْ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَى قَارَبَ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا، وَإِذَا لَمْ يُقَارِبْهَا بَاعَدَهَا، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
إِذَا غَيَّرَ النَّأْيُ الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ | رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ |
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: جَهَدَ أَنَّهُ رَآهَا بَعْدُ؛ وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ إِذَا أَحَدَّ نَظَرَهُ إِلَى يَدِهِ وَقَرَّبَهَا مِنْ عَيْنِهِ رَآهَا.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالطَّيْرُ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى «مَنْ» وَ «صَافَّاتٍ» : حَالٌ مِنَ الطَّيْرِ.
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ) : ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي عَلِمَ: اسْمُ اللَّهِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَعِنْدَ آخَرِينَ: هُوَ ضَمِيرُ كُلٍّ؛ وَهُوَ الْأَقْوَى؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِرَفْعِ كُلٍّ عَلَى الِابْتِدَاءِ، فَيَرْجِعُ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ لَكَانَ الْأَوْلَى نَصْبَ كُلٍّ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي بَعْدَهَا قَدْ نَصَبَ مَا هُوَ مِنْ سَبَبِهَا؛ فَيَصِيرُ كَقَوْلِكَ: زَيْدًا ضَرَبَ عَمْرٌو غُلَامَهُ، فَتَنْصِبُ زَيْدًا بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ؛ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ، وَالْآخَرُ جَائِزٌ.
قَالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (٤٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) : إِنَّمَا جَازَ دُخُولُ بَيْنَ عَلَى الْمُفْرَدِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى بَيْنَ كُلِّ قِطْعَةٍ وَقِطْعَةٍ سَحَابَةٌ، وَالسَّحَابُ جِنْسٌ لَهَا.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ) :(مِنَ) هَاهُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ؛ فَأَمَّا (مِنْ جِبَالٍ) فَفِي (مِنْ) وَجْهَانِ: