الاتجاه الأول إلى إخراجها من الشرك وإدخالها في التوحيد أولًا، ثم من بعد ذلك تكون الدولة الإسلامية المنفذة، ولكن المحرمات كانت ثابتة في أول تشريع الإسلام، وإن كان مسكوتًا عنها، فلم تكن موضع إباحة، بل كانت موضع سكوت وعفو حتى ينزل التشريع بتحريمها تحريمًا قاطعًا، فما كانت الخمر مباحة، ولكن كان مسكوتًا عنها، أو كانت في مرتبة العفوِ كما يقول علماء الأصول، حتى إذا كان المنع الصريح في المدينة كان معه العقاب، وهكذا كل ما كان مسكوتًا عنه لم يكن موضع إباحة.
ولما انتقل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان التنظيم الكامل للمعاملات؛ لأنه وجدت دولة إسلامية فاضلة، تنظِّم العلاقات بين الناس، وتقوم على تنفيذها، والقضاء بها، فنظم التعامل، وابتدأ بأعلى أنواع التعاون بين الناس وهو الإخاء الذي آخى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، والأنصار بعضهم مع بعض، والمهاجرين بعضهم مع بعض، وشرعت النظم الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية؛ من أحكام للبيوع والمزارعات، وتحريم للربويات وغيرها. وفرضية الصدقات وتنظيمها، وإعطاء الفقير حقه، والتنظيم الاجتماعي الكامل، وشرعت الزواجر الاجتماعية من حدود وقصاص، وسُنَّت الأحكام الفاصلة بين الحقوق، وفتح باب الجهاد، ووضعت نظم الحرب، وقامت العلاقات الدولية على أسس متينة محكمة، يراعى فيها حق العدو، كما يلاحظ حق الولي على سواء؛ لأن المبادئ المدنية في الإسلام قامت على إعطاء كل ذي حق حقه من غير بخس ولا شطط، ولا مجاوزة للحد ولا اعتداء.
ويلاحظ أن مبادئ العدالة جاءت مع وجود الشريعة الإسلامية، وقد دعا إليها القرآن الكريم في مكة والمدينة؛ لأن العدالة حق ابتدائي لا يختلف في دولة عن دولة، فهو يتعلق بالنفس الإنسانية في ذاتها.
فالأمر بالعدالة والإحسان والوفاء بالعهد جاء في سورة النحل، وهي مكبة عند نظر الأكثرين؛ لأن الله تعالى يقول فيها وهو أحكم القائلين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٠-٩٢].
ولقد أحصى القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن السور المدنية فقال: "عن قتادة نزل بالمدينة من القرآن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، ويا أيها النبي لم تحرّم إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله، هذه السور نزلت بالمدينة، وسائر القرآن نزل بمكة".
ويلاحظ أنَّه جعل سورة النحل من السور المدنية، ولكن المذكور في المصاحف التي بين أيدينا أنها مكية، ولعلَّ فيها روايتين.


الصفحة التالية
Icon