سنبين أنه لم يأت قط بما يخالف المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة عندما قابله به.
وقبل أن ننتقل إلى ما فعل الإمام عثمان -رضي الله تبارك وتعالى عنه، لا بُدّ أن نذكر حقيقتين دلَّ عليهما المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم، والسياق التاريخي:
أولهما: إنَّ الذي كُتِبَ في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعتره تغيير، ولم تجر عليه الحروف السبعة، وإنَّ الحروف السبعة كانت في قراءة القرآن لا في كتابته، وأن استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في القراءة لا في الكتابة.
ثانيتهما: إنَّ استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ليسهل على أمته حتى تلين ألسنتهم، وتستقيم على النطق باللغة التي اختارها الله تعالى لقرآنه المنزل من عنده وهو العليم، وهي لغة قريش في جلّ ما أنزل الله تعالت كلماته، فكانت لغة قريش لغة الأدب في الجاهلية والإسلام، فكان من منطق الحوادث أن يكون أعلى الكلام ينزل في ثوب أعلى اللغات العربية؛ إذ كانت لغة الشعر والأدب.
١٥- ولنتنقل بعد ذلك إلى جمع ذي النورين عثمان -رضي الله عنه، ومكانه من جمع الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما، وجزاهما عن الإسلام خيرًا.
تفرَّق الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقد كان عمر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- آخذًا بحجزات الصحابة، وخصوصًا كبارهم، يمنعهم من مغادرة الحرمين، فاختلف الناس في القراءة، ومنهم من كان يقرأ بالقراءات أو اللغات المختلفة التي ما كانت القراءة بها إلّا ترخيصًا مؤقتًا حتى تلين الألسنة إلى لغة القرآن، وإنها لواحدة، وإن اختلفت القراءات المتواترة، فيظلها ما بين حذف الهمزة في النطق، وإن كانت بقاية في مصحف عثمان تقرأ فيه مثبتة وغير مثتبة، كالأرض -مهموزة، والأرض -من غير همزة، ومن اختلاف في الشكل يدل في كل شكل على معنى صحيح يصلح أن يكون مقصودًا في القرآن، ويكون الجمع صحيحًا، مثل: أنفسكم -بضم الفاء، وأنفسكم -بفتحها، ومثل: فتبينوا -بالباء بعد التاء، أو فتثبتوا -بالثاء بعد التاء وبعدها باء ثم تاء.
وما كان اختلاف القراء في الأمصار في عهد عثمان في هذه القراءات المشهورة بيننا الآن، إنما كان الاختلاف في اللغات التي كان مرخَّصًا بها، فمنهم من لم يعلم نسخها عند قراءة جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في العرضات الأخيرة.
لقد اشتدّ الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم، وتشبَّث كل فريق بما يقرأ، زاعمًا أن غيره هو الباطل الذي لا ريب فيه، ووقع الخلاف بين أهل العراق وأهل الشام عندما اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كل طائفة بما روي لها، وتنازعوا أمرهم بينهم، وأظهر بعضهم تكفير بعض، وتبرأ بعضهم من بعض، وكان معهم حذيفة بن اليمان كما


الصفحة التالية
Icon