ولكن لماذا خلا من ذلك؟ والجواب عن ذلك: إنَّ القرآن له قراءات مختلفة هي سبع قراءات، وليست هي الحروف كما ذكرنا من قبل، ولكي يكون المكتوب محتملًا لهذه القراءات المرويّة بطرق متواترة كلها، كان لا بُدَّ أن يكون غير منقوط ولا مشكول، كما ذكرنا في اختلاف القراءة في ﴿أَنْفُسِكُم﴾ وكما ذكرنا في اختلاف القراءة في ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وما كان يمكن أن يحتمل النص القراتين إذا كان منقوطًا ومشكولًا.
ومن جهة أخرى: إنَّ الأساس في تواتر القرآن هو الحفظ في الصدور لا في السطور، حتى لا يعتريه المحو والإثبات، فلو كان القرآن منقوطًا ومشكولًا لاستغنى طالب القرآن عن أن يقرئه مقرئ، فلا يكون التواتر الصحيح الذي يقتضي الإجازة ممن أقرأه، ولقد جاء التحريف في الكتب الأخرى لاعتمادها على المكتوب في السطور لا المحفوظ في الصدور.
ومن جهة ثالثة: إنَّ ترتيل القرآن كما أثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بُدَّ منه كما قال تعالى: ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢]، وإنَّ ذلك لا يتمّ إلَّا إذا كان القرآن يقرأ على مقرئ يجيزه حفظًا وقراءة وترتيلًا.
١٧- وإن الرواية الصحيحة بينة مستقيمة لا مجال للشك فيها، وهي تدل على أمور ثلاثة قطعية في ثبوتها، وهي:
أولًا: على أنَّ النص الذي كان عند حفصة هو النص المكتوب في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو ذاته النص المكتوب في مصحف عثمان -رضي الله عنه، فلا يصحّ الزيادة عليه، ولا يصح النقص.
ثانيًا: على أنَّ القرآن كتب بلغة قريش، وهي الحرف الذي استقرَّت القراءة عليه، وما كان الترخيص بالقراءة بالحروف الأخرى إلَّا مؤقتًا حتى تطوع الألسنة لحرف قريش، ولقد جاء في القرطبي: "إن القرآن نزل بلغة قريش" معناه عندي في الأغلب والله أعلم: لأنَّ غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات من تحقيق الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز".
ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الألفاظ والأساليب والمنهج القرآني أنزل على لغة قريش، ولكن الحركات التي تعتري بنية الكلمة من همز أو إمالة أو نحو ذلك جاء على لهجات من غير قريش، ورويت كلها عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: إنَّ مصحف عثمان -رضي الله تبارك وتعالى عنه- يجب أن تكون كل قراءة قرآنية متفقة مع نصه، وأن الشك فيه كفر، وأن الزيادة عليه لا تجوز، وإنه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة.