١٨- إذا كانت هذه حقائق ثابتة تواترت في الأجيال، فلماذا كانت الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي، التي تجمع كما تجمع حاطب ليل يجمع الحطب والأفاعي، مع أنَّ القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار؟
قد أجاب عن ذلك الكاتب الكبير المسلم المرحوم مصطفى صادق الرافعي١، فقال في كتابه إعجاز القرآن: "ونحن ما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضل اختلاف، وتتسم في الرد والتأويل كل طريق وعر، كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعًا، لا يتدارأ فيها الرواة من علا منهم ومن نزل، إنما كان ذلك لأنَّ القرآن أصل الدين، وما اختلفوا فيه إلّا من بعد اتساع الفتن، وحين تألف الأحداث، وحين رجع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى، وزاغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترءوا على حدود الله تعالى، وضربتهم الفتن والشبهات، مقبلًا بمدبر، ومدبرًا بمقبل، فصار كل من نزع إلى الخلاف يريد أن يجد من القرآن ما يختلف معه، أو يختلف به، وهيهات ذلك، إلَّا أن يتدسَّس في الرواية بمكروه يكون معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة، ويبالغ في الحمل على ذمته، والعنف بها في أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها في الحق وجهًا.. ونحسب أن أكثر هذا مما افترته الملحدة، وتزيدت به الفئة الغالية، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغيًا بينهم، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه، ويرى فيه حجته على مذهبه، وبينته على دعواه، ثم أهل الزيغ والعصبية لآرائهم بالحق والباطل، ثم ضعاف الرواة ممن لا يميزون، أو ممن تعارضهم لغفلة في التمييز. وذلك سواد كله ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور"٢.
وإن ذلك الذي ذكره الكاتب الإسلامي الكبير حق لا ريب فيه، فإن هذه الروايات التي جمعها من لا يفرق بين الحابل والنابل، وبين الحطب والأفعى، إنما كانت بعد الفتن، ولعل للإسرائيليات دورها الخفي المسموم، وإن الذين تولوها غلاة الفرق، والرواة الذين لا يميزون أو يغفلون ما لا يدركون.
ألم تر إلى أولئك الغلاة يطعنون في عثمان -رضي الله عنه، ويجعلون من أسباب الطعن أنه جمع المصحف وجعل له إمامًا، عندما رأى الاختلاف قد تفاقهم، وأنه جمعهم على ما كتب في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ورأى علي -رضي الله عنه- مثيري الفتنة بعد مقتل الشهيد عثمان، فقال -رضي الله عنه وكرم الله وجهه: "يا معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلوِّ في عثمان، وقولكم حرق المصاحف، فوالله ما حرقها إلَّا على ملأ منَّا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم"، وروي عن عمر بن سعيد أنه قال: "قال على بن أبي طالب: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت مثل الذي فعل عثمان".
٢ إعجاز القرآن للرافعي ص٤٢.