وإن الحدود شرعت محافظة على المصالح المقررة الثابتة، وهي المحافظة على النفس وأمنها، والمحافظة على النسل، والمحافظة على العقل، والمحافظة على المال.
وأشد الحدود تكون لأقصى أنواع الاعتداء، وهو الاتفاق على الجرائم التي يكون فيها اعتداء على النفس وعلى المال، بل وعلى الأعراض والعقول، وهو ما يسمَّى حد الحرابة.
والحرابة اتفاق طائفة من المجرمين على الخروج على الجماعة، بارتكاب مفاسد من أنواع الاعتداء المختلفة من قتل أو اغتصاب أموال، وارتكاب جرائم أخرى كما قرَّر الإمام مالك في تفسير معنى الحرابة، وقد سمَّاهم القرآن الكريم محاربين، لأنهم يحاربون الأمن والنظام بقوة يدَّرَّعون بها، وقد قال الله تعالى فيها: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٣، ٣٤].
ونلاحظ في النص الكريم أمورًا ثلاثة:
أولها: إنَّ الآية الكريمة سمَّتهم محاربين لله ورسوله؛ ذلك لأنهم يحاربون أحكام الشرع، وينتقضون على الحكم المنفذ لأحكام الله تعالى ورسوله الحكيم -صلى لله تعالى عليه وسلم، وسمَّاهم ساعين في الأرض بالفساد؛ لأن معاندة الشرع والإخلال بأحكامه ومحاربة الفضائل وإزعاج الناس وقطع الطريق عليهم هو عين الفساد.
وثانيها: إنَّ العقوبة هي التقتيل أو القتل، أو القتل والصلب، ليكونوا عبرة لغيرهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو تفريق جمعهم، ونفيهم من الأرض بإبعادهم حيث لا يستطيعون أن يجتمعوا.
وقد قرَّر مالك من بين الفقهاء أنَّ ولي الأمر مخيّر في هذه العقوبات يختار منها ما يناسب حالهم.
ثالثها: إنَّ الجريمة الأساسية في اجتماعهم واتفاقهم مع قوة تمكنهم من جرائمهم، فإن تابوا من تلقاء أنفسهم، فقد ذهب أصل الجريمة وهو الاتفاق الجنائي، والخروج بقوة لتنفيذه، وما داموا قد تابوا فقد عدلوا عن الارتكاب، وهو جريمة مستمرة، فإذا أنهوها، لا تستمر عقوبة الحد.