هذا تفصيل محكم جاء في محكم التنزيل، وإذا علمنا أنَّ مشاحات الناس أكثرها في المداينات والمبايعات، وسواء أكانت في داخل الإقليم أم في أقاليم أخرى، علمنا لماذا عني القرآن الكريم المنزَّل من عند الحكيم العليم بالمداينات والعقول تلك العناية.
وإن تعجب فاعجب من قول كثيرين من الفقهاء أنَّ الأمر هنا للإرشاد لا للإلزام، وعجبنا من أن يتصوروا أن ذلك التفصيل إرشاد، وليس حكمًا تكليفيًّا، والله أعلم بكتابه.
الربا في القرآن:
٢١٨- من وقت البعث المحمدي، الإسلام لا يرى التعامل بالربا علاقة صالحة، بل إنه في الآية التي نزلت بمكة كان فيها استنكار، وعدَّه عملًا غير صالح، اقرأ قوله تعالى في سورة الروم المكية:
﴿وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ [الروم: ٣٩].
وهذا النص يفيد أنّ الربا لا يرضى عنه الله، وإن كان فيه زيادة فهي زيادة آثمة، وإذا كان المتعاملون يريدون أن يتضاعف مالهم فسبيل ذلك هو إعطاء شطر من المال للسائل والمحروم، فإنَّ المال ينمو بذلك وتكون الزيادة خيرًا؛ لأن ذلك السبيل هو التعاون، وجاءت من بعد ذلك في المدينة الآيات المحرّمة للربا تحريمًا قاطعًا حاسمًا، منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [[آل عمران: ١٣٠-١٣٢].
والربا المذكور هنا، وفي الآية التي تلوناها من قبل، وفي الآية التي سنتلوها من بعد هو الزيادة في الدَّيْن نظير الأجل، فليس هو الدَّيْن ذاته، إنما هو الزيادة، ونذكر هذا تصحيحًا لفهم بعض الذين يبيحون الربا أو بعضه، فقد قال قائل منهم -عفا الله عنه: إنَّ المحرَّم هو ما زاد على ضعف الدَّيْن. وسارع إلى تصديقهم بعض القانونيين الذين يؤمنون بها في هذا الزمان أكثر من إيمانهم بالقرآن.
والوصف بالمضاعفة للزيادة في هذا الزمان هو لبيان ما يؤدي إليه الربا؛ إذ تتضاعف الزيادة مضاعفة كثيرة، وفي ذلك ما فيه من إرهاق المدين، وقبح حال الدائن، وأكله المال بالباطل من غير عمل ولا كَدٍّ، ولا تعرَّض للخسارة.