وجه يدل على المراد، كوقوعه من أحدنا إذا تكامل على شرط دلالته، ألا يصح منه تعالى أن يخاطب به وهو موضوع لفائدة إلّا وهو يريدها، وإلّا كان في حكم العابث، وقد ذكر شيخنا أبو هاشم -رحمه الل-هـ أنه إذا لم يكن معنى يستدل به عليه، أو به وبغيره، فلا فرق بين كونه على هاتين الصفتين، ويبيِّن أن يكون الكلام من المخاطب بهذه الصفة"، أي: إنه إذ لم يكن له دلالة، فلا فرق بين أن يكون عربيًّا أو عجميًّا من يقرؤه.
ثم يقول: "ولا خلاف بين المسلمين أنَّ القرآن يدلُّ على الحلال والحرام، والكتاب قد نطق بذلك؛ لأنه تعالى قال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾، وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ﴾ [النساء: ٨٢]، وقال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨] وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] وقال تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾، إلى غير ذلك مما يبيِّن به أنه يفيد، فكيف يصح مع ذلك ما قالوه؟ "١.
ويفهم من هذا الكلام أنَّ ثمَّة من الناس من يرى أن القرآن للتلاوة والتعبُّد بتلاوته، وقراءته في الصلاة، كما يفعل الأعاجم الذين لا يعرفون العربية، وأنه يسوق الأدلة لبطلان هذا القول فيقول: "وبيِّن شيوخنا أنه لو لم يكن له معنى لا يكون معجزًا، لأنَّ إعجازه هو بما يحصل من المزية والرتبة في قدر الفصاحة، ولا يكون الكلام فصيحًا إلَّا بحسن معناه وموقعه واستفاضته، كما لا يكون فصيحًا إلَّا بجزالة لفظه، ولو أنَّ واحدًا من المتكلمين ألَّف الكلام المهمل جملة، وتكلَّم بها من غير مواضعه لم يعد من الكلام الفصيح، كما لو كان في معناه ركاكة لم يكن منه، وكما لو ركَّ لفظه لم يعد في ذلك، فكيف لمن أقرَّ أنه معجز أن يزعم أنَّه لا معنى له، وأنه لا فائدة منه"٢.
هذا كلام القاضي عبد الجبار، ولولا نقله لهذا الكلام ما تصورنا أن يوجد من يقول إن القرآن لا يطلب معناه، وأن القصد منه التعبد بالتلاوة في الصلاة، وخارج الصلاة.
ولعلَّ الذي دفع هؤلاء إلى ذلك القول إن صحّ نقله أنهم يتوقفون خشية أن ينحرف بهم الفكر، فيصرفوا معاني القرآن إلى غيرها لانحراف في التفكير، أو تزيد عليه، فرأوا أن يكتفوا بالتلاوة والتعبُّد بها واقفين عند ذلك، حتى لا يقولوا على الله بغير علم.
ومهما يكن مقصدهم، فإنَّ ذلك الرأي إذا قاله قائل لا يؤخذ به، ولا نعلم أحدًا قاله إلا ما تعلَّمنا من المغني.
٢٤٥- إنَّ القرآن مقصود بمعانيه وبتلاوته، وترطيب الأسماع به، وبالتعبُّد به وبألفاظه، فكلّ ما اشتمل عليه مقصود لذاته، لا بالتبعية لغيره، فهو مأدبة الله تعالى.
٢ الكتاب المذكور ص٣٥٧.