فالله تعالى يقول في مكانته: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: ٣١]، أي: إنَّ هذا القرآن له قوة في النفوس وفي الوجود؛ بحيث إنه يمكن أن تسيّر به الجبال، أو تكلَّم به الموتى أو تقطَّع به الأرض، فله في النفس كمال الرهبة، وله كمال التأثير، وله في الآذان جمال التعبير، فلو كانت الجبال تسير أو الأرض تقطع، أو الموتى يسمعون القرآن فإنه يكون لقراءة القرآن، فهل يتأتَّى هذا التأثير مع تلوي الألسنة والأصوات بنغماته يترنَّح بها القارئ ذات اليمين وذات الشمال، والآهات تتعالى، ويكون المكاء والتصدية.
والقرآن وصفه الله تعالى بأنه ذو الذكر، وأقسم به تعالى، فقال -سبحانه وتعالى: ﴿وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ﴾، أي: القرآن الذي يصحبه ذكر الله تعالى، وهو الذي تطمئن به قلوب المؤمنين، كما قال الله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وسمى القرآن ذكرًا، فقال -جلَّ وعلا: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، فهل تلوية الأصوات والنبرات بغير الترتيل المنزَّل من عند الله تعالى يكون الذكر لله تعالى، والاتعاظ بقرآنه، أم هي النغمت بين التطرية والتعلية هي التي تهتز لها النفوس طريًا، وتعلو بها الأصوات إعجابًا بالمغنِّي وعجبًا.
والقرآن قد وصف الله تعالى المؤمنين عند تلاوته، فقال تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مريم: ٥٨] فهل تكون التلاوة للمؤمنين الذين إذا سمعوا القرآن بكوا بهذه الأصوات الذي تحدث الضجَّات المتوالية.
ويصف الله تعالى القرآن الكريم فيقول -عز من قائل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: ٩].
ويبين -سبحانه وتعالى- قوة تأثير القرآن في قلوب المتَّعظين، وفي قلوب من يتفهَّمونه، فقال تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٢١]، فهل يرى أيّ مدرك للمعاني القرآنية أن ذلك يتفق مع التغنِّي والتطريق الذي يصنعه قراء العصر، إنَّ القارئ يكون مشغولًا بالطرب عن معنى القرآن وهدايته وعظاته فلا يتدبره، ولا يدرك معناه، ويكون على قلوب أقفال بما يحدثه التغني والتطريب، والاجتهاد في إثارة النفوس لا لتتعظ، ولكن لتضع ستارًا بينها وبين ما في القرآن، والله تعالى يصف القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: ٢٣].
وإن هذه الآيات التي تلوناها قبسة من نور القرآن الكريم، وهي تدل على أنه ليس شعرًا يتغنَّى به، ويتنزَّل على لحون الأعاجم قديمها وحديثها، ولكنه كتاب هداية