هذه الأخبار واردة عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، وهي في ظاهرها تدل على جواز التغني بالقرآن والترجيع فيه والتطريب به، وقد طار بهذه الآثار أولئك الذين يروجون قراءة القرآن بألحان الأعاجم، وكان لنا أن نردَّها لمخالفتها المتواتر عن الرسول -صلى الله تعالى عليه وسلم.
فلننظر إليها فهل تؤدي في مدلولها إلى جواز اتخاذ القرآن سبيلًا للتطريب في عصرنا، لتحدث القراءة طريًا، ولا تحدث عظة واعتبارًا، وخشية من الله، وإحساسًا من المؤمن بأنَّ الله تعالى يخاطبه بهذا القرآن.
ولننظر فيها خبرًا نتعرَّف ما يدل عليه في ظاهره، وفي حقيقته.
أمَّا الخبر الأول: وهو ما نُسِبَ إلى النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- من أنه قال: "زينوا القرآن بأصواتكم"، فإنه لا يفسَّر بظاهره؛ لأنَّ القرآن زيّن بذاته، ولكن المتأمّل يرى أنَّ القراءة المرتّلة التي يلاحظ فيها المأثور من القراءات، وملاحظة المعاني فيها، فيرتفع الصوت فيها نسبيًّا في آيات التهديد والإنذار، ويخضعه نسبيًّا في آيات التبشير، ويقرأ قراءة المتأمّل في الآيات الكريمة الداعية إلى التفكير، فإن هذا بلا شك موافق للترتيل الذي أخذناه عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، ومصور للمعاني القرآنية من غير أن تكون القراءة صياحًا نمطيًّا، ومن غير أن تكون تليحنًا أعجميًّا، ولينًا في الإلقاء لا يسوغ.
وإنَّا نحسب أن تزيين القراءة لا يكون إلّا بالترتيل، فالتزيين في كل شيء بما يناسبه، وذلك واقع في المعنويات كما هو واقع في الحسيات والأشياء والأشخاص، ولا شكَّ أن القراءة تكون بما يناسب معاني القرآن، وموضع العظة والاعتبار والتأمل فيه، ولا يمكن أن يفسّر التزيين بالتلوي في الحروف والكلم، فإن ذلك شيين، وليس بزين.
ولنرجع إلى تفسير البراء الذي روى هذا الخبر، فقد قال في تفسيره له: "زينوا القرآن بأصواتكم" أي: الهجوا به واشغلوا به أصواتكم، واتخذوه شعارًا وزينة، وقيل: إن معناه الحضّ على قراءة القرآن.
وإن هذين التفسيرين وإن كانا غير ما فسرنا به الخبر، يتلاقيان مع تفسيرنا، ولا ينافرانه، وهما يتفقان مع غيره من الأحاديث في هذا الباب.
٢٦٦- ولننظر فيما أخرجه مسلم من قول للنبي -عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال: "ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن" فقد فسَّره بعض العلماء بأنَّ التغني هنا تحسين الصوت بقراءة القرآن، بأن يعوّد لسانه النطق السليم من قراءة القرآن بإخراج الحروف من مخارجها، واتِّباع الترتيل المحكم عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في المدِّ والغنّ