الأمر الثاني: في المسابقات البيانية التي كانت تعقد في الأسواق في موسم الحج في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فقد كانت فيها تجارة المادة، وتجارة البيان معًا، فقد كان في الأولى زاد الجسم، وفي الثانية زاد النفس، كما ظهر ذلك في الشعر ومسابقاته، فمن معلقات تعلق في أستار الكعبة، وحوليات يقطع الحول في نسخ خيالها، ووصغ عباراتها التاي تصغي إليها الأفئدة.
ولو أنَّك وازنت بين العرب وغيرهم مِمَّن هم في مثل حالهم من البداوة الغالبة، لوجدتهم في السماك الأعزل، وغيرهم في الحضيض الأوهد، فلا يزال الحاضرون من غير العرب يجدون في شعر زهير بن أبي سلمى حكمة البيان الشعري، وفي شعر امرئ القيس قوة الوصف وفورة الشباب، وفي شعر عنترة قوة البأس ولطف التشبيب والغزل، وفي شعر طرفة قوة النفس الثائرة، وهكذا لو وازنت بين هذه الآثار وما بقي من شعر اليونان والرومان، لوجدتها لا تقل عنها في إحكام الفكرة، وسلامة التفكير، ولكن تزيد عليها في حلاوة النغم، وتساوق الفكر، وتآخي الألفاظ مع المعاني.
نعم إنَّ الأدب القصص في اليونان كثير، وهو خلاصة ما عندهم ولبّه، وهو عند العرب قليل أو أقلّ من القليل، والسبب في ذلك هو أنَّ هذا ثمرة الكتابة التي تتيح للكاتب فرصة التأليف وتلفيق الوقائع، بحيث تكون كل واقعة لفق الأخرى مسلسلة معها، في خيال متسق، وهكذا.
أمَّا العرب الذين غلبت عليهم الأمية مع تذوّق القول، وتخيّر خيره، واستهجان هجينه، فإنَّ أدبهم يكون باللمح السريع، والنظر الخاطف أحيانًا، والمستبصر المتدبر في أكثر الأحيان عند الذين أوتوا فكرًا وعقلًا وإدراكًا، وفي الجملة لا وسط بين كلامهم وجنانهم، ولا زمن مستغرق بين خاطرهم وقولهم، فتكون خيالاتهم فيها جمال اللمح، وقوة اللحظ، وسرعة الإدراك.
٢٧- ولذلك أجمع المؤرخون في القديم والحديث على أن العرب لهم مآثر في البيان، وذوق الكلام، والتفريق بين كريمه وسقيمه، وجميله وهجينه.
ولنترك الكلمة للقاضي عياض المتوفَّى سنة ٥٤٤هـ يصف بيانهم في كتابه الشفاء، فهو يقول: "خصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، وجعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديهًا في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويمدحون ويقدحون، ويتوسلون ويتوصلون، ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآلئ، فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب، ويذهبون الإحِن، ويهيجون الدِّمَن، ويجرئون الجبان، منهم البدوي ذو اللفظ الجزل والقول الفصل، والكلام الفخم والطبع