ونرى من هذا أنَّ القائلين بهذا القول يشككون في مرتبة القرآن وكونه من عند الله تعالى من غير أن يقدموا دليلًا، بل إنَّ القصد الذي يبدو من لحن القول والدعوى هو التشكيك المجرَّد في علوِّ البلاغة القرآنية، ومن وراء ذلك التشكيك ما يريدون من توهين ثم دعاوي بأنه من صنع محمد -صلى الله عليه وسلم، وهكذا يسير الخط من الاحتمالات تنافي الواقع إلى توهين لأمر القرآن، إلى ادِّعاء أنه ليس من عند الله.
٣٥- وإن القول بالصرفة نبت أول ما نبت من رواق الفلسفة الكلامية، قاله شيخ من شويخهم، وهو إبراهيم بن يسار الشهير بالنظَّام، المتوفَّى سنة ٢٢٤هـ، فهو أول من جاهر به، وأعلنه ودعا إليه، ولاحى عنه كأنَّه مسألة من مسائل علم الكلام، ونقول: إنَّه أوَّل من جهر به ولا نقول أنه أول من فكر فيه، أو أول من ابتدأ القول به؛ لأنَّ الأفكار لا يعرف ابتداؤعها، وهي تتكون في خلاياها، بل لا تعرف إلا بعد أن تظهر، ويجاهر بها.
جاهر بها، وكان ذا فصح وبيان وحجة وبرهان، وإن لم يكن مستقيم الفكر، بل إنه يظن الظن فيحسبه يقينًا، ثم يبني عليه ويقايس، ويصحح القياس والتنظير بين الأشياء، بينما الأصل ذاته يحتاج إلى قياس صحيح.
ولقد نقده تلميذه الجاحظ المتوفّى سنة ٢٥٥هـ، الذي كان معجبًا بشخصه، غير آخذ برأيه، وقال فيه ذاكرًا عيبه:
"إنما عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسه على العارف والخاطر، والسابق الذي لا يوثق بمثله، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاف، ولكنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه، وينسى أن بدء أمره كان ظنًّا، فإذا أتقن ذلك وأيقن جزم عليه، وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصر في صحة معناه، ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، وكأن كلامه خرج مخرج الشهادة القاطعة، فلم يشك السامع أنه إنما حكاه عن سماع قد امتحنه، أو عن معاينة قد بهرته".
لم يوافق التلميذ أستاذه، لم يوافق الجاحظ شيخ الكتاب المسلمين وأكبر ناقد بين الناقدين شيخه، وإذا كان إبراهيم بن يسار قد اشتهر بالبيان وسرعة الجواب ولسن القول، فقد اشتهر الجاحظ بأنه ذواق الكلام وصيرفي البيان، فإن خالف من يتسرع في الخبر، ويبني عليه، فهي مخالفة الخبير العارف بتصريف القول، وأفانين التعبير والتفكير.
ولم يكن رد الجاحظ على شيخه رد المجادل المحاور، ولكنه كان بالعمل، فقد كان أول من كتب في إعجاز القرآن من الناحية البيانية؛ ليكون الرد على الصرفة ببيان الإعجاز الذاتي.


الصفحة التالية
Icon