ونشرتها، وترجمتها إلى الفرنسية والإنجليزية، وقد أقمنا الدليل على أن تلك الشريعة المحكمة لا يمكن أن يأتي بها أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد نشأ في بلد أمي ليس به مدرسة ولا مكتب دراسة، وهي في إحكامها لا يمكن أن تكون إلَّا من عند الله تعالى.
وكتبنا بحثًا وازنَّا فيه بين شريعة القرآن وقانون الرومان في الملكية بالخلافة، وذكرنا أنَّ قانون الرومان قد تكوَّن في نحو ثلاثة عشر قرنًا، ومع ذلك هو في الملكية بالخلافة لا يوزان بشريعة القرآن، إلَّا إذا وازنَّا بين عصا هشة وسيف بتار، فلا يمكن أن يأتي به محمد من عنده، بل هو من عند الله تعالى.
والأوربيون القانونيون يرون في قانون الميراث في القرآن أنَّ العقل البشري لم يصل إلى الآن إلى خير منه، ونحن لهذا نقرر أن ما ذكره القرطبي غير الصرفة يدل على أن القرآن كله جملة وتفصيلًا هو من عند الله -سبحانه وتعالى العليم الخبير.
ولكن نرى أنَّ الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بمثله ولو مفترى، فكان التحدي للعرب ابتداءً بالمنهج البياني للقرآن، وهو الذي استرعى ألبابهم، ولعله لم تكن بلغت مداركهم العقلية والقانونية أن يعرفوا مدى ما في أحكام القرآن من تنظيم سليم للمجتمع، فيه المصلحة الإنسانية العالية التي تعلو على تفكير البشر، وإن كان فيهم ذوق بياني يذوقون به الألفاظ الفخمة القوية في رنينها، المصورة للمعاني في أحوالها الصوتية، وتَكَوُّن حروفها، ومرامي عباراتها، ويدركون في ذلك المعنى السليم من غير إجهاد، فيدركون ما هو جيد المعنى في ذاته من غير أن يتعرَّفوا فلسفة قانونية أو عقلية أو كونية، وفي القرآن ما يرضهيم ويملأ نفوسهم، ويعجزون عن أن يأتوا بمثله.
وإن لقرآن فيه الشريعة الباقية الخالدة، وهو يخاطب الأجيال كلها، والأجناس كلها العرب والعجم، والبيض والسود، والأحمر والأصفر، فليس ما فيه من الإعجاز خاصًّا بالعرب، وإنما إعجازه يعمّ الجنس البشري كله؛ لأنه يخاطب الجميع، ويطالب الناس قاطبة بأحكامه، وفيه البينات المثبتة لكل جنس.
وعلى ذلك نقسم وجوه الإعجاز التي اشتمل عليها القرآن إلى قسمين:
أولهما: ما يتعلق بالمنهاج البياني؛ وهذا النوع من الإعجاز أول من يخاطب به العرب، لما ذكرنا في صدر كلامنا من أنه جاء بلغتهم، ولأنهم كانوا بمقتضى بداوتهم مع استقامة تفكيرهم، ومع وجود نبوات سابقة فيهم، أبقت بعض العلم، وبمقتضى ثقافتهم اللسانية وعنايتهم بلغتهم كانوا أكثرم الناس إدراكًا لمعنى الإعجاز في القرآن من ناحية بيانه ونغمه وجزالته، وكذلك كان الأمر منهم، وكانوا هم المخاطبين أولًا به، وبعجزهم قام البرهان الأول.
القسم الثاني: الإعجاز بما اشتمل عليه من ذكر لأخبار السابقين، ولأخبار مستقبلة، وقعت كما ذكر، واشتماله على علوم كونية وحقائق لم تكن معروفة في عصر محمد -صلى الله عليه وسلم، وقد أتى بها القرآن، وتقرَّرت حقائقها من بعد، وكذلك ما اشتمل عليه من شرائع أثبت الوجود الإنساني أنَّها أصلح من غيرها، وأنها وحدها العادلة، وأنَّ هذا النوع معجزة للأجيال كلها، وهو يحتاج في بيانه إلى مجلدات ضخام، ولذلك نتَّجِه ابتداء إلى القسم الخاص بالبلاغة، وهو الأول.


الصفحة التالية
Icon