إلى معانيه أيضًا، وأنه يريد من النظم الكلمات لا ذات الكلام كله برناته القوية أو الهادئة التي تنساب في النفس، وتتغلغل فيها حتى تصل إلى أعماقها.
٤٥- هذا رأي الجرجاني، وله مقامه، يقصر البلاغة والفصاحة على الأسلوب ومجموع العبارات التي تتضافر في الدلالة على معانٍ متآخية، وتتآخى الألفاظ في الدلالة على هذه المعاني.
وهناك فريق آخر، ومن هؤلاء الجاحظ، يرون للحروف وللكمات فصاحة، عندما تتلاءم حروفها ولا تتجافى مخارجها، ولا يكون فيها تكرار، فلا فصاحة في مثل ما رواه الجاحظ.
وقبر حرب بمكان قفر... وليس قرب قبر حرب قبر
فإنَّ تكرار الحروف جعلها غير متلائمة، وغير سهلة في النطق.
وقد عقد ابن الأثير في كتابه "المثل السائر" فصلًا قيما ذكر فيه فصاحة الكلمات وقبحها، في رنينها وفي تآخي حروفها، وقال: "إنَّ من الكلمات ما له نغمة أوتار، ومنها ما له صوت حمار"، وضرب على ذلك الأمثال، فقال: "إن كلمة السيف لها مرادف، وهو الخنشليل، فهل هما متماثلتان في الفصاحة والنغمة الصوتية، ومثل كلمة غصن، وكلمة عسلوج بمعنى الغصن، فهل هما متماثلتان في النغمة وسهولة النطق".
ويبدو من كتاب "إعجاز القرآن" للباقلاني أنَّه يرى أنَّ للكلمات ذاتها فصاحة خاصة، وأن تخيُّرها يدل على قدرة قائلها، وعلوّ بيانه، فإذا كانت المعاني البلاغية لجملة القول، ففي اختيار الألفاظ المتناسبة في موسيقاها، وفي نغمتها، وفي رنَّتها قوية أو هادئة على حسب المقام، فللفظ دخل في الاختيار. ويقول الباقلاني في ذلك:
"قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة، والأسباب الدائرة بين الناس أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة، وأسباب مؤسَّسة مستحدثة، فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور، ثم انضاف إلى ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمَّن تأييد ما يبتدأ تأسيسه، ويراد تحقيقه، بأنَّ التفضال في البراعة والفصاحة، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعاني، والمعاني وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر، فالبراعة أظهر.
ثم يقول:
"وأنت ترى جمال الكلمة من القرآن يتمثّل في تضاعيف كلام كثير، وهي غرة جبينه، وواسطة عقده، والمنادى على نفسه بتميزه وتخصصه برونقه وجماله، واعراضه في حسنه ومائه"١.

١ إعجاز القرآن للباقلاني ص٦٤.


الصفحة التالية
Icon