وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَ إبَاحَتَهَا لَيْلًا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي بَعْضُهَا إمْسَاكٌ وَبَعْضُهَا شَرْطٌ لِكَوْنِ الْإِمْسَاكِ صَوْمًا شَرْعِيًّا وَفِي قَوْلِهِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] دلالة على أن من حصل مفطرا بغير عُذْرٍ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الْأَكْلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ لِأَنَّ هَذَا الْإِمْسَاكَ ضَرْبٌ مِنْ الصيام
وقد روى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ (مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)
فَسَمَّى الْإِمْسَاكَ بَعْدَ الْأَكْلِ صَوْمًا فَإِنْ قِيلَ إذا لم يكن صَوْمًا شَرْعِيًّا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ لِأَنَّ قَوْله تعالى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] الْمُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لَا الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ قِيلَ لَهُ هَذَا عِنْدَنَا صَوْمٌ شَرْعِيٌّ قَدْ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ إيجَابِهِ الْقَضَاءَ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَوْمًا مَنْدُوبًا إلَيْهِ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ أصبح في رمضان غيرنا وللصوم أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَيَجْزِيهِ مِنْ فَرْضِهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ مَا يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ فَإِنْ قِيلَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَالْإِتْمَامُ يُطْلَقُ فِيمَا قَدْ صَحَّ الدُّخُولُ فِيهِ وَهُوَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ حَتَّى يَلْحَقَهُ الْخِطَابُ بِالْإِتْمَامِ قِيلَ لَهُ لَمَّا أَصْبَحَ مُمْسِكًا عَمَّا يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الدُّخُولُ فِي الصَّوْمِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ قَدْ يَكُونُ صَوْمًا شَرْعِيًّا وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ قَضَاءُ فَرْضٍ وَلَا تَطَوُّعٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صَوْمٌ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ اتِّفَاقُ جَمِيعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مُمْسِكًا عَمَّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصَّائِمُ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ وَيَجْزِيهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا مَضَى صَوْمًا يَتَعَلَّق بِهِ حُكْمُ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ لَمَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حُكْمُ الصَّوْمِ بِإِيجَادِ النِّيَّةِ بَعْدَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْوِيَ صِيَامًا تَطَوُّعًا لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا صِحَّةُ دَلَالَةِ قَوْلِهِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ لُزُومِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِالدُّخُولِ فِيهِ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ] عَامٌّ فِي سَائِرِ اللَّيَالِي الَّتِي يُرِيدُ النَّاسُ الصَّوْمَ فِي صَبِيحَتِهَا وَغَيْرُ جَائِزٍ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى لَيَالِي صِيَامِ رَمَضَانَ دُونَ