فإني لما تأملت مذاهب القدماء المعتبرين، والعلماء المتقدمين والمتأخرين واختبرت مذاهبهم وآراءهم، ولحظت مطالبهم وأبحاثهم، رأيت مذهب الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أسدها وأقومها، وأرشدها وأحكمها، حتى كان نظره في كبر آرائه، ومعظم أبحاثه، يترقى عن حد الظن والتخمين، إلى درجة الحق واليقين.
ولم أجد لذلك سببا أقوى، وأوضح وأوفى، من تطبيقه مذهبه على كتاب الله تعالى، الذي:
(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) «١»..
وأنه أتيح له درك غوامض معانيه، والغوص على تيار بحره لاستخراج ما فيه، وأن الله فتح عليه من أبوابه، ويسر عليه من أسبابه، ورفع له من حجابه، ما لم يسهل لمن سواه، ولم يتأت لمن عداه، فكان على ما أخبر الله تعالى عن ذي القرنين في قوله:
(وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، فَأَتْبَعَ سَبَباً) «٢».
ولما رأيت الأمر كذلك، أردت أن أصنف في أحكام القرآن كتابا أشرح فيه ما انتزعه الشافعي رضي الله عنه، من أخذ الدلائل في غوامض المسائل، وضممت إليه ما نسجته على منواله، واحتذيت فيه على مثاله، على قدر طاقتي وجهدي، ومبلغ وسعي وجدي، ورأيت بعض من عجز عن إدراك مستلكاته «٣» فهمه، ولم يصل إلى أغراض معانيه سهمه، جعل عجزه عن فهم معانيه، سببا للقدح في معاليه. ولم يعلم أن الدر
(٢) سورة الكهف آية ٨٤- ٨٥.
(٣) طريق الاستدلال ووسائل الاستنباط التي يسلكها.