في جميع ما ذكرناه لا بآلة فلا العلاقة ماسكة ولا الماء حامل ولا الريح ولا السحاب مركب ولا الرياح سابقة فإنها جمادات لا أفعال لها وإنما هذه عادات أجراها الله تعالى وليست موجبة وكذلك حياة الأراضي بالمياه وخروج أنواع النبات منها ليس بالمياه ولعل إجراء العادة في إنشاء الخلق على النظام المعلوم تنبيه للعباد عند كل حادث من ذلك على قدرته والفكر في عظمته وليشعرهم في كل وقت بما أغفلوه ويحرك خواطرهم للفكر فيما أهملوه فخلق الأرض والسماء ثابتين لا يزولان إلى الوقت المقدر ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض ثم أنشأ للجميع رزقا منها وأقواتا تبقي حياتهم بها.
ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا بل جعل لهم قوتا معلوما في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا ويكونوا مستشعرين بالافتقار إليه في كل حال.
ووكل إليهم بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر فيكون ذلك باعثا لهم إلى فعل الخير ليجتنوا ثمرته واجتناب الشر ليسلموا من مغبته فيتولى من الأسباب ما لا يتأتى للخلق تحصيله.
ثم جعل تلك الأسباب داعية لهم إلى الكسب والتبذل في الأعمال الشاقة لئلا يبطروا وجعل أخلاقهم متفاوتة ليختلف بذلك صناعاتهم ويختلف درجاتهم في المهن والأعمال وأنزل ما أنزل إلى الأرض بمقدار الحاجة ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت نزوله حتى جعل للماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيها ذلك الماء فيخزن أولا فأولا على مقدار الحاجة كما قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ)