وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ، وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقاً. ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه.
والغيب مصدر، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيباً، أو فيعل خفف كقيل، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل، وهو قسمان: قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وقسم نصب موقع عليه دليل: كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به. وإن جعلته حالاً على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء. والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية.
وقيل المراد بالغيب: القلب لأنه مستور، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ. فالباء على الأول للتعدية. وعلى الثاني للمصاحبة. وعلى الثالث للآلة.
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال:
أقَامتْ غزالةً سُوقَ الضُراب | لأهْلِ العِرَاقينِ حَولاً قَمِيطا |
وقيل: أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه، وإنما سمي الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشعه بالراكع الساجد.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ الرزق في اللغة: الحظ قال تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه.
وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه، قالوا: الحرام ليس برزق، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق هاهنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم ينفقون الحلال المطلق.
فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ