بالحواس الخمس، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعاقلة التي تدرك الحقائق الكلية، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم تعلم، والقوة القدسية التي تتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء المعنية بقوله تعالى:
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية وهي: «المشكاة»، و «الزجاجة»، و «المصباح»، و «الشجرة»، و «الزيت»، فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى ووجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب وضبطها للأنوار العقلية وإنارتها بما تشمل عليه من المعقولات، والعاقلة كالمصباح لإِضاءتها بالإِدراكات الكلية والمعارف الإِلهية، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها الزيتونة المثمرة بالزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية لتجردها عن اللواحق الجسمية، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلين منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد تضيء بالمعارف من غير تفكر ولا تعلم، أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم مستعدة لقبولها كالمشكاة، ثم تنتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث تتمكن من تحصيل النظريات فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها قابلة للأنوار، وذلك التمكن إن كان بفكر واجتهاد فكالشجرة الزيتونة وإن كان بالحدس فكالزيت، وإن كان بقوة قدسية فكالتي يكاد زيتها يضيء لأنها تكاد تعلم ولو لم تتصل بملك الوحي والإِلهام الذي مثله النار من حيث إن العقول تشتعل عنه، ثم إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح، فإذا استحضرتها كانت نوراً على نور. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ لهذا النور الثاقب. مَنْ يَشاءُ فإن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها.
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ إدناء للمعقول من المحسوس توضيحاً وبياناً. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معقولاً كان أو محسوساً ظاهراً كان أو خفياً، وفيه وعد ووعيد لمن تدبرها ولمن لم يكترث بها.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
فِي بُيُوتٍ متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بعض بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحبيراً ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم، أو تمثيلاً لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن لا فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها. وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم. أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ بالبناء أو التعظيم. وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه. يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل، وقرئ «والابصال» وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر «يسبح» بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه، وقرئ تسبح بالتاء مكسوراً لتأنيث الجمع ومفتوحاً على إسناده إلى أوقات الغدو.
رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ لا تشغلهم معاملة رابحة. وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال