قال صاحب الكشاف: «والفرق بين الخلق والجعل. أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار» «١».
وقال الفخر الرازي: «وإنما حسن لفظ الجعل هنا، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر» «٢».
وقال أبو السعود: «والجعل هنا هو الإنشاء والإبداع كالخلق، خلا أن ذلك- أى الخلق- مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة والتشريعي أيضا كما في قوله- تعالى- ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ «٣».
وقد وردت نصوص تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسماوات. إلا أنها في كثير من المواضع القرآنية تفرد- أى الأرض- وتجمع السماء كما هنا، لعظم السماء. ولإحاطتها بالأرض، ولأنه لم يعرف أن الله- تعالى- قد عصى فيها، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، بخلاف طبقات الأرض فإنها متصلة.
والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده- سبحانه- بخلق هذه الأشياء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالظلمات، ظلمات الشرك والكفر والنفاق، وأن المراد بالنور، نور الإيمان والإسلام واليقين، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا.
قال صاحب المنار: قال الواحدي: والأولى حمل اللفظين عليهما، واستشكله الرازي لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، والمختار عندنا جوازه، وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر- أى الشرع- كما تقدم، فيفسر جعل كل نور بما يليق به «٤».

(١) الكشاف ج ٢ ص ٣ للزمخشري. طبعة دار الكاتب العربي ببيروت.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٤ ص ٥.
(٣) تفسير أبو السعود ج ٢ ص ٧٧ طبعة صبيح.
(٤) تفسير المنار ج ٧ ص ٢٩٥ للشيخ رشيد رضا. طبعة دار المنار سنة ١٣٦٧ هجرية.


الصفحة التالية
Icon