فنقل عن أبى سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر. قالوا: والسبب في اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله ﷺ كان حاضرا يوم بدر.. وأنه- سبحانه- شدد الأمر على أهل بدر، لأنه كان أول الجهاد، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم.
والقول الثاني: أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاما في جميع الحروب بدليل أن قوله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا... عام فيتناول جميع الصور.
أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» «١».
وهذا القول الثاني هو الذي نرجحه، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين في كل زمان ومكان، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها.
٣- أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين. أى أن تحريم التولي يوم الزحف على غير المتحرف أو المتحيز ثابت لم ينسخ.
وقد رجح ذلك الإمام ابن جرير فقال ما ملخصه: «سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فقال: هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال بعد ذلك وهي قوله- تعالى-: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ... وليس لقوم أن يفروا من مثليهم.
وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزما.
وأولى التأويلين بالصواب في هذه الآية عندي: قول من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر. وحكمها ثابت في جميع المؤمنين. وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين، حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما- بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما- فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
وإنما قلنا: هي محكمة غير منسوخة، لما قد بينا في غير موضع، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله- تعالى- وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ «٢»
.

(١) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٠٣.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٩ ص ٢٠٣.


الصفحة التالية
Icon