وقوله أَذَقْنَا من الذوق وحقيقته إدراك الطعام ونحوه بالذوق باللسان واستعمل هنا على سبيل المجاز في إدراك ما يسر وما يؤلم من المعنويات كالرحمة والضراء.
قال الآلوسى «والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل، لما روى من أن الله- تعالى- سلط عليهم القحط سبع سنين، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب، ووعدوه بالإيمان، فلما دعا لهم ورحمهم الله- تعالى- بالمطر، طفقوا يطعنون في آياته- تعالى- ويعاندون نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن الناس عام لجميع الكفار» «١».
والضراء من الضر، وهو ما يصيب الإنسان في نفسه من أمراض وأسقام.
والمكر: هو التدبير الخفى الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد.
والمعنى: وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغنى من بعد ضراء أصابتهم في أنفسهم أو فيمن يحبون، ما كان منهم إلا المبادرة إلى الطعن في آياتنا الدالة على قدرتنا، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها.
وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة، وأسند المساس إلى الضراء، رعاية للأدب مع الله- تعالى-، لأنه وإن كان كل شيء من عنده، إلا أن الأدب معه- سبحانه- يقتضى إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما في قوله- تعالى-: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وفي الحديث: «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك».
وإذا الأولى شرطية، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط.
وجاء التعبير بإذا الفجائية في الجواب، للإشارة إلى توغلهم في الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة، عادوا إلى عنادهم وجهلهم، ونسبوا كل خير إلى غيره- تعالى-.
قال الرازي: «واعلم أنه- تعالى- ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة في قوله- تعالى- وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ.. إلا أنه- تعالى- زاد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة.