وَالَّذِينَ كَفَرُوا: قَسِيمٌ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ، وَهُوَ أبلغ من قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ «١»، وَإِنْ كَانَ التَّقْسِيمُ اللَّفْظِيُّ يَقْتَضِيهِ، لِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ يَكُونُ بِوُجُوهٍ، مِنْهَا: عَدَمُ الْقَابِلِيَّةِ بِخِلْقَةٍ أَوْ غَفْلَةٍ، وَمِنْهَا تَعَمُّدُ تَرْكِ الشَّيْءِ، فَأُبْرِزَ الْقَسِيمُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فِي صُورَةٍ ثُبُوتِيَّةٍ لِيَكُونَ مُزِيلًا لِلِاحْتِمَالِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ، وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ قَدْ يَعْنِي كُفْرَ النِّعْمَةِ وَكُفْرَ الْمَعْصِيَةِ بَيَّنَ: أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الشِّرْكُ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، وَبِآيَاتِنَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا، وَهُوَ مِنْ إِعْمَالِ الثَّانِي، إِنْ قُلْنَا: إِنَّ كَفَرُوا، يَطْلُبُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَطْلُبُهُ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْإِعْمَالِ، وَيَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَالْآيَاتُ هُنَا:
الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، أَوْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وأو الْقُرْآنُ، أَوْ دَلَائِلُ اللَّهِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ، أَقْوَالٌ. وأُولئِكَ: مُبْتَدَأٌ، وأَصْحابُ: خَبَرٌ عَنْهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا، وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ بَدَلًا وَعَطْفَ بَيَانٍ، فَيَكُونُ أَصْحَابُ النَّارِ، إِذْ ذَاكَ، خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَفِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِ مَنْ كَفَرَ وَكَذَّبَ بِالنَّارِ. فَيُفْهَمُ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ.
وَكَانَ التَّقْسِيمُ يَقْتَضِي أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى لَا خَوْفٌ وَلَا حَزْنٌ يَلْحَقُهُ، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَذَّبَ يَلْحَقُهُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، وَهُوَ صَاحِبُ النَّارِ. فَكَأَنَّهُ حُذِفَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ شَيْءٌ أُثْبِتَ نَظِيرُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَصَارَ نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذَاكِرٍ فَتْرَةٌ | كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ |
(٢) سورة الأحقاف: ٤٦/ ١٤.