سَبَبُ نُزُولِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً «١»، ونَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ «٢»، ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ «٣»، الْآيَاتِ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ. وَالضَّمِيرُ فِي قُلْ، إِمَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَإِمَّا لِمَنْ يَنْبَغِي إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَفَسَّرُوا الدَّارَ الْآخِرَةَ بِالْجَنَّةِ، قَالُوا: وَذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى الْجَنَّةِ. قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً «٤». وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يُجْعَلُ لِهَؤُلَاءِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «٥». وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، أَيْ نَعِيمُ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَحُظْوَتُهَا وَخَيْرُهَا، لِأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ هِيَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا. وَسُمِّيَتْ آخِرَةً لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الدُّنْيَا، أَوْ هِيَ آخِرُ مَا يُسْكَنُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ «٦». وَمَعْنَى: عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ هُمُ الْفاسِقُونَ «٧». وَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالْعِنْدِيَّةِ هُنَا: الْمَكَانَةُ وَالْمَرْتَبَةُ وَالشَّرَفُ، لَا الْمَكَانُ. وَمَعْنَى خَالِصَةً: أَيْ مُخْتَصَّةً بِكُمْ، لاحظ فِي نَعِيمِهَا لِغَيْرِكُمْ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ خَالِصَةً، فَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يَحْكِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ إِذْ ذَاكَ خَبَرُ كَانَتْ، وَيَكُونَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ هُوَ الْعَامِلَ فِي الْمَجْرُورِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ إِذْ ذَاكَ الْخَبَرَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ مَعْنَى الْكَلَامِ بِهِ وَحْدَهُ. وَقَدْ وَهَمَ فِي ذَلِكَ الَمَهْدَوِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، إِذْ قَالَا: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُ خَالِصَةً عَلَى الْحَالِ، وَعِنْدَ اللَّهِ خَبَرُ كَانَ. وَقِيلَ: انْتِصَابُ خَالِصَةً عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، فَيَجُوزُ فِي لَكُمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكَانَتْ، لِأَنَّ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَرْفُ الْجَرِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بخالصة. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْيِينِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: لَكُمْ، أَعْنِي نَحْوَ قَوْلِهِمْ: سَقْيًا لَكَ إِذْ تَقْدِيرُهُ:
لَكَ أَدْعُو.
مِنْ دُونِ النَّاسِ: مُتَعَلِّقٌ بِخَالِصَةٍ، وَدُونَ هُنَا لَفْظٌ يُسْتَعْمَلُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَقَطْعِ الشَّرِكَةِ. تَقُولُ: هَذَا وَلِيٌّ دُونَكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ لَا حَقَّ فِيهِ لَكَ مَعِي وَلَا نَصِيبَ. وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ يَأْتِي لِمَعْنَى الِانْتِقَاصِ فِي الْمَنْزِلَةِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الْمِقْدَارِ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ: الْجِنْسُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَقَوْلِهِ: خَالِصَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ. وقيل:

(١) سورة البقرة: ٢/ ١١١.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ١٨.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٨٠.
(٤) سورة القصص: ٢٨/ ٨٣.
(٥) سورة الأنعام: ٦/ ٣٢.
(٦) سورة النمل: ٢٧/ ٣.
(٧) سورة آل عمران: ٣/ ٨٢.


الصفحة التالية
Icon