ذَكَرَ رَحْبًا عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَكَانِ، وَأَنَّثَ فَسِيحَةً عَلَى اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ: مَثَابَاتٍ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:
مَثَابًا لا فناء الْقَبَائِلِ كُلِّهَا | تَخُبُّ إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الطَّلَائِحُ |
جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابًا لَهُمْ | لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الْوَطَرْ |
خَلَقَ، أَوْ وَضَعَ، وَيَتَعَلَّقُ لِلنَّاسِ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: مَثَابَةٌ كَائِنَةٌ، إِذْ هُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ.
وَقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِلَفْظِ جَعَلْنَا، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَالْأَمْنُ: مُصْدَرٌ جَعَلَ الْبَيْتَ إِيَّاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَا يَقَعُ بِهِ مِنَ الْأَمْنِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا أَمْنٍ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ مَجَازًا، أَيْ آمِنًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «١»، وَجَعَلَهُ آمِنًا، اخْتَلَفُوا، هَلْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي الدُّنْيَا، فَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقْتَتِلُونَ، وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَوْلَ مَكَّةَ، وَهِيَ آمِنَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَيَلْقَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ فَلَا يُهَيِّجُهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهَا فِي النُّفُوسِ حُرْمَةً، وَجَعَلَهَا أَمْنًا لِلنَّاسِ وَالطَّيْرِ وَالْوَحْشِ، إِلَّا الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ، فَخُصِّصَتْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ أَتَى الْحَرَمَ، فَفِي أَمْنِهِ مِنْ أَنْ يُهَاجَ فِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي الْفِقْهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ آمِنٌ لِأَهْلِهِ، يُسَافِرُ أَحَدُهُمُ الْأَمَاكِنَ الْبَعِيدَةَ، فَلَا يُرَوِّعُهُ أَحَدٌ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يَحُولَ الْجَبَابِرَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَصَدَهُ. وَمَنْ قَالَ هَذَا الْأَمْنَ فِي الْآخِرَةِ، قِيلَ: مِنَ الْمَكْرِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: مِنْ عَذَابِ النَّارِ. وَقِيلَ: مِنْ بخس ثواب من
(١) سورة البقرة: ٢/ ١٢٦.