سِيبَوَيْهِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا أُكِّدَ عِنْدَهُمْ لَا يُلْغَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ خَبَرًا، لِأَنَّ خالِدَيْنِ خَبَرٌ ثَانٍ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ.
وَلَمَّا انْقَضَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَصْفُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ. وَعَظَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ الْمَوْعِظَةَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُصِيبَةِ لَهَا مَوْقِعٌ فِي النَّفْسِ لِرِقَّةِ الْقُلُوبِ وَالْحَذَرِ مِمَّا يُوجِبُ الْعَذَابَ، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، أَوْ لِاخْتِلَافٍ مُتَعَلِّقٍ بِالتَّقْوَى. فَالْأُولَى فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالْعَمَلِ وَالثَّانِيَةُ فِي تَرْكِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلْتَنْظُرْ: أَمْرًا، وَاللَّامُ سَاكِنَةٌ وَأَبُو حَيْوَةَ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ: بِكَسْرِهَا.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ حَفْصٍ، عَنْ عَاصِمٍ وَالْحَسَنُ: بِكَسْرِهَا وَفَتْحِ الرَّاءِ، جَعَلَهَا لَامَ كَيْ. وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الْقِيَامَةِ كَائِنًا لَا مَحَالَةَ، عَبَّرَ عَنْهُ بِالْغَدِ، وَهُوَ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي يَوْمَكَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَمْ يَزَلْ يُقِرُّ بِهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَالْغَدِ، وَنَحْوُهُ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، يُرِيدُ تَقْرِيبَ الزَّمَانِ الْمَاضِي. وَقِيلَ: عَبَّرَ عَنِ الْآخِرَةِ بِالْغَدِ، كَأَنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ نَهَارَانِ، يَوْمٌ وَغَدٌ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: لِغَدٍ: لِيَوْمِ الْمَوْتِ، لِأَنَّهُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ كَغَدِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: بِالْأَمْسِ الدُّنْيَا وَغَدٌ الْآخِرَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا تَنْكِيرُ النَّفْسِ فَاسْتِقْلَالٌ لِلْأَنْفُسِ النَّوَاظِرِ فِيمَا قَدَّمْنَ لِلْآخِرَةِ، كَأَنَّهُ: قِيلَ لِغَدٍ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ لِعِظَمِهِ. انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَا تَكُونُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَأَبُو حَيْوَةَ: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسٌ الَّتِي هِيَ اسْمُ الْجِنْسِ كَالَّذِينَ نَسُوا:
هُمُ الْكُفَّارُ، وَتَرَكُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَامْتِثَالَ مَا أَمَرَ وَاجْتِنَابَ مَا نَهَى، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى فَرْطِ غَفْلَتِهِمْ وَاتِّبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَسْعَوْا إِلَيْهَا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ. عُوقِبُوا عَلَى نِسْيَانِ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ سُفْيَانُ: الْمَعْنَى حَظُّ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مُبَايَنَةَ الْفَرِيقَيْنِ: أَصْحَابُ النَّارِ فِي الْجَحِيمِ، وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ فِي النَّعِيمِ، كَمَا قَالَ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ «١»، وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ «٢».
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ: هَذَا مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، كَمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ «٣»، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ «٤»، وَالْغَرَضُ تَوْبِيخُ الْإِنْسَانِ عَلَى قَسْوَةِ قَلْبِهِ، وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِ لِهَذَا الَّذِي لَوْ أنزل على
(٢) سورة ص: ٣٨/ ٢٨.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٧٢.
(٤) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٣. [.....]