فَارِسَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَسَّرَ بِهِ الْآيَةُ، وَلَكِنْ فَهِمَ الْمُفَسِّرُونَ مِنْهُ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ. فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ: الرُّومُ وَالْعَجَمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: التَّابِعِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الْعَرَبِ لِقَوْلِهِ:
مِنْهُمْ، أَيْ فِي النَّسَبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ حِبَّانَ: طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَهْلُ الْيَمَنِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا: أَبْنَاءُ الْأَعَاجِمِ وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ أَيْضًا: هُمُ التَّابِعُونَ وَعَنِ الضَّحَّاكِ أَيْضًا: الْعَجَمُ وَعَنْ أَبِي رَوْقٍ: الصِّغَارُ بَعْدَ الْكِبَارِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُحْمَلَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ عَلَى التَّمْثِيلِ، كَمَا حَمَلُوا قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَارِسَ: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فِي تَمْكِينِهِ رَجُلًا أُمِّيًّا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَتَأْيِيدِهِ وَاخْتِيَارِهِ مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ: أَيْ إِيتَاءُ النُّبُوَّةِ وَجَعْلُهُ خَيْرَ خَلْقِهِ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ: هُمُ الْيَهُودُ الْمُعَاصِرُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِأَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا، وَلَمْ يُطِيقُوا الْقِيَامَ بِهَا حِينَ كَذَّبُوا الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ، وَهِيَ نَاطِقَةٌ بِنُبُوَّتِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
حُمِّلُوا مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. شَبَّهَ صِفَتَهُمْ بِصِفَةِ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ كُتُبًا، فَهُوَ لَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ، أَكُتُبٌ هِيَ أَمْ صَخْرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يُدْرِكُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ التَّعَبِ بِحَمْلِهَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ فِي نَحْوِ ذَلِكَ:

زَوَامِلُ لِلْإِشْعَارِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ بِجَيِّدِهَا إِلَّا كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ
لَعَمْرُكُ مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إذا غدى بِأَوْسَاقِهِ أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: حِمَارٌ مُنَكَّرًا وَالْمَأْمُونُ بْنُ هَارُونَ: يُحَمَّلُ بِشَدِّ الْمِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وَالْجُمْهُورُ: الْحِمَارُ مُعَرَّفًا، وَيَحْمِلُ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَيَحْمِلُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوِ الْجَرِّ عَلَى الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْحِمَارَ كَاللَّئِيمِ فِي قَوْلِهِ:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَعَارِفِ يُوصَفُ بِالْجُمَلِ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «١»، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لَا فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ. وَوَصْفُهُ بِالْمَعْرِفَةِ ذِي اللَّامِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْرِيفِهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ مِنْ هَدْمِ مَا ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنْعَتُ إِلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، وَالْجُمَلُ نَكِرَاتٌ. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِئْسَ مَثَلًا مَثَلُ الْقَوْمِ. انْتَهَى.
(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٧.


الصفحة التالية
Icon