أَيْ وَدُّوا ادِّهَانَكُمْ، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، ولو بَاقِيَةٌ عَلَى بَابِهَا مِنْ كَوْنِهَا حَرْفًا لِمَا كَانَ سَيَقَعُ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ، وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهِ لَسُرُّوا بِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَعَطِيَّةُ وَالسُّدِّيُّ: لَوْ تُدْهِنُ: لَوْ تَكْفُرُ، فَيَتَمَادَوْنَ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَوْ تُرَخِّصُ لَهُمْ فَيُرَخِّصُونَ لَكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَوْ تَذْهَبُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ فَيَذْهَبُونَ مَعَكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي دينك فيصانعوك فِي دِينِهِمْ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَكَ وَيُرَاؤُونَكَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: لَوْ تَكْذِبُ فَيَكْذِبُونَ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَوْ تَضْعُفُ فَيَضْعُفُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالْفَرَّاءُ: لَوْ تَلِينُ فَيَلِينُونَ. وَقَالَ أَبَانُ بْنُ ثَعْلَبٍ: لَوْ تُحَابِي فَيُحَابُونَ، وَقَالُوا غَيْرَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الدِّهَانُ: التَّلْيِينُ. وَقَالَ الْمُفَضَّلُ: النِّفَاقُ وَتَرْكُ الْمُنَاصَحَةِ، وَهَذَا نَقْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَا قَالُوهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ هو تفسير باللازم، وفيدهنون عَطْفٌ عَلَى تُدْهِنُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَدَلَ بِهِ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ جُعِلَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَهُمْ يُدْهِنُونَ كَقَوْلِهِ: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ «١»، بِمَعْنَى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَهُمْ يُدْهِنُونَ حِينَئِذٍ، أَوْ وَدُّوا ادِّهَانَكَ فَهُمُ الْآنَ يُدْهِنُونَ لِطَمَعِهِمْ فِي ادِّهَانِكَ. انْتَهَى. وَجُمْهُورُ الْمَصَاحِفِ عَلَى إِثْبَاتِ النُّونِ. وَقَالَ هَارُونُ: إِنَّهُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ فَيُدْهِنُوا، وَلْنَصْبِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَوَابُ وَدُّوا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى لَيْتَ وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّهُ نُطِقَ بِأَنْ، أَيْ وَدُّوا أَنْ تُدْهِنَ فَيُدْهِنُوا، فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى التَّوَهُّمِ، وَلَا يَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَوْ مَصْدَرِيَّةً بِمَعْنَى أَنْ.
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَهِينٍ وَمَا بَعْدَهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتَ مُبَالَغَةٍ، وَنُوسِبَ فِيهَا فَجَاءَ حَلَّافٍ وَبَعْدَهُ مَهِينٍ، لِأَنَّ النُّونَ فِيهَا مَعَ الْمِيمِ تَوَاخٍ. ثُمَّ جَاءَ: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ بِصِفَتَيِ الْمُبَالَغَةِ، ثُمَّ جَاءَ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، فَمَنَّاعٌ وَأَثِيمٌ صِفَتَا مُبَالَغَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَيْرَ هُنَا يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ خَيْرٌ. وَقِيلَ: الْخَيْرُ هُنَا الْمَالُ، يُرِيدُ مَنَّاعٍ لِلْمَالِ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الشُّحِّ، مَعْنَاهُ: مُتَجَاوِزُ الْحَدِّ فِي الظُّلْمِ. وَفِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قُلْتُ: يَعْنِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ؟ قَالَ:
الرَّحِيبُ الْجَوْفُ، الْوَتِيرُ الْخَلْقِ، الْأَكُولُ الشَّرُوبُ، الْغَشُومُ الظَّلُومُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: عُتُلٌّ بِرَفْعِ اللَّامِ، وَالْجُمْهُورُ: بِجَرِّهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَعَلَ جَفَاءَهُ وَدَعْوَتَهُ أَشَدَّ مَعَايِبِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا جَفَا وَغَلُظَ طَبْعُهُ قَسَا قَلْبُهُ وَاجْتَرَأَ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النُّطْفَةَ إِذَا خَبُثَتْ خَبُثَ النَّاشِئُ مِنْهَا، وَمِنْ ثَمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ الزِّنَا ولا

(١) سورة الجن: ٧٢/ ١٣.


الصفحة التالية
Icon