وَشَدِّ الْبَاءِ الْمَفْتُوحَةِ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَامَ الرَّسُولُ لِلدَّعْوَةِ، تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ لِيُطْفِئُوهُ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُتِمَّ نُورَهُ. انْتَهَى. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَادَ قَوْمُهُ يَقْتُلُونَهُ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَأَبْعَدَ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَقَرَأَ الجمهور: قال إنما أدعوا رَبِّي: أَيْ أَعْبُدُهُ، أَيْ قَالَ لِلْمُتَظَاهِرِينَ عَلَيْهِ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي: أَيْ لَمْ آتِكُمْ بِأَمْرٍ يُنْكَرُ، إِنَّمَا أَعْبُدُ رَبِّي وَحْدَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ إِطْبَاقَكُمْ عَلَى عَدَاوَتِي. أَوْ قَالَ لِلْجِنِّ عِنْدَ ازْدِحَامِهِمْ مُتَعَجِّبِينَ: لَيْسَ مَا تَرَوْنَ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ بِأَمْرٍ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، إِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِمَّنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ. أَوْ قَالَ الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ:
ذَلِكَ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا كُلُّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي كادُوا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو عَمْرٍو بِخِلَافٍ عَنْهُ: قُلْ: أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُزْدَحِمِينَ عَلَيْكَ، وَهُمْ إِمَّا الْجِنُّ وَإِمَّا الْمُشْرِكُونَ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ فِي ضَمِيرِ كادُوا.
ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى تَبَرُّئِهِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيصَالِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَ الضَّرَّ مُقَابِلًا لِلرُّشْدِ تَعْبِيرًا بِهِ عَنِ الْغَيِّ، إِذِ الْغَيُّ ثَمَرَتُهُ الضَّرَرُ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا غَيًّا وَلَا رَشَدًا، فَحَذَفَ مِنْ كُلٍّ مَا يَدُلُّ عليه مقابله. قرأ الْأَعْرَجُ: رُشُدًا بِضَمَّتَيْنِ. وَلَمَّا تَبَرَّأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى نَفْعِهِمْ وَضَرِّهِمْ، أَمَرَ بِأَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى، يَفْعَلُ فِيهِ رَبُّهُ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجِيرَهُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَلَا يَجِدُ مِنْ دُونِهِ مَلْجَأً يَرْكَنُ إِلَيْهِ، قَالَ قَرِيبًا مِنْهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: حِرْزًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
مَدْخَلًا فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: نَاصِرًا، وَقِيلَ: مَذْهَبًا وَمَسْلَكًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

يَا لَهْفَ نَفْسِي وَنَفْسِي غَيْرُ مُجْدِيَةٍ عَنِّي وَمَا مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ مُلْتَحَدُ
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَهُوَ: قَالُوا له أترك ما ندعو إِلَيْهِ وَنَحْنُ نُجِيرُكَ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْ لَنْ يُجِيرَنِي. وَقِيلَ: هُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِ وَرْدَانَ سَيِّدِ الْجِنِّ، وَقَدِ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، قَالَ وَرْدَانُ: أَنَا أُرَحِّلُهُمْ عَنْكَ، فَقَالَ: إني لن يجبرني أَحَدٌ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. إِلَّا بَلاغاً، قَالَ الْحَسَنُ:
هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَنْ يُجِيرَنِي أَحَدٌ، لَكِنْ إِنْ بَلَّغْتُ رَحِمَنِي بِذَلِكَ. وَالْإِجَارَةُ لِلْبَلَاغِ مُسْتَعَارَةٌ، إِذْ هُوَ سَبَّبُ إِجَارَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحِمَتِهِ. وَقِيلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، أَيْ لَنْ يُجِيرَنِي فِي أَحَدٍ، لَكِنْ لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَمِيلُ إِلَيْهِ وَأَعْتَصِمُ بِهِ إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ وَأُطِيعَ فَيُجِيرَنِي اللَّهُ، فَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ مُلْتَحَدًا وَعَلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الْوَجْهُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ نَفْيًا، وَعَلَى الْبَدَلِ خَرَّجَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ:


الصفحة التالية
Icon