الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ، وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ. قَالَ هِبَةُ اللَّهِ الْمُفَسِّرُ الضَّرِيرُ: نَزَلَ نِصْفُهَا بِمَكَّةَ فِي الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ، وَنِصْفُهَا بِالْمَدِينَةِ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ. وَلَمَّا عَدَّدَ تَعَالَى نِعَمَهُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَكَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، أَتْبَعَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِمْ بِتَهْدِيدِهِمْ بِالْجَزَاءِ وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ عَذَابِهِ. وَنَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، أَوِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَوِ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ، أَوْ عُمَرَ بْنِ عَائِذٍ، أَوْ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، كَانَ يَنْحَرُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ جَزُورًا، فَأَتَاهُ يَتِيمٌ فَسَأَلَهُ شَيْئًا فَقَرَعَهُ بِعَصًا، أَقْوَالٌ آخِرُهَا لِابْنِ جُرَيْجٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرَأَيْتَ هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، فَتَتَعَدَّى لِاثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا الَّذِي، وَالْآخَرُ مَحْذُوفٌ، فَقَدَّرَهُ الْحَوْفِيُّ: أَلَيْسَ مُسْتَحِقًّا عَذَابَ اللَّهِ، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْ هُوَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي. قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ أَرَأَيْتُكَ بِكَافِ الْخِطَابِ، لِأَنَّ كَافَ الْخِطَابِ لَا تَلْحَقُ الْبَصَرِيَّةَ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ تَدُلُّ عَلَى التَّقْرِيرِ وَالتَّفْهِيمِ لِيَتَذَكَّرَ السَّامِعُ مَنْ يَعْرِفُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وَالدِّينُ: الْجَزَاءُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى هَلْ عَرَفْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالْجَزَاءِ؟ هُوَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ: أَيْ يَدْفَعُهُ دَفْعًا عَنِيفًا بِجَفْوَةٍ أَوْ أَذًى، وَلا يَحُضُّ: أَيْ وَلَا يَبْعَثُ أَهْلَهُ عَلَى بَذْلِ الطَّعَامِ لِلْمِسْكِينِ. جَعَلَ عِلْمَ التَّكْذِيبِ بِالْجَزَاءِ، مَنْعَ الْمَعْرُوفِ وَالْإِقْدَامَ عَلَى إِيذَاءِ الضَّعِيفِ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدُعُّ بِضَمِّ الدَّالِ وَشَدِّ الْعَيْنِ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَالْيَمَانِيُّ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَخَفِّ الْعَيْنِ، أَيْ يَتْرُكُهُ بِمَعْنَى لَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ وَيَجْفُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا يَحُضُّ مُضَارِعُ حَضَّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَحَاضُّ مُضَارِعُ حَاضَضْتُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالدِّينِ: بِحُكْمِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْحِسَابِ، وَقِيلَ:
بِالْجَزَاءِ، وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ إبراهيم ابن عَرَفَةَ: يَدُعُّ الْيَتِيمَ: يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ وَلَا يُطْعِمُهُ، وَفِي قَوْلِهِ: وَلا يَحُضُّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ لَا يُطْعِمُ إِذَا قدر، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْأَوْلَى، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحُضَّ غَيْرَهُ بُخْلًا، فَلَأَنْ يَتْرُكَ هُوَ ذَلِكَ فِعْلًا أَوْلَى وَأَحْرَى، وَفِي إِضَافَةِ طَعَامٍ إِلَى الْمِسْكِينِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا عَمُودَ الْكُفْرِ، وَهُوَ التَّكْذِيبُ بِالدِّينِ، ذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ، وَهُوَ عِبَادَتُهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَلِّينَ هُمْ غَيْرُ