الْمَنْدُوبَاتِ. وَأَمَّا الشُّكْرُ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالٍ دَالَّةٍ عَلَى تَعْظِيمِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبٍ. وَقَالَ غَيْرُ هَذَا الْقَائِلِ الَّذِي تَلَخَّصَ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ، وَإِظْهَارُ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ أَوْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ إِنْ وُجِدَتْ هُنَاكَ. وَهَذَا الْبَحْثُ فِي وُجُوبِ الشُّكْرِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهِ، كَانَ يُنَاسِبُ فِي أَوَّلِ شُكْرِ أَمْرٍ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ «١».
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ: مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى إِذْ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وَهُوَ قَوْلٌ كُوفِيٌّ، وَلَا يُرَادُ بِالشَّرْطِ هُنَا إِلَّا التَّثَبُّتُ وَالْهَزُّ لِلنُّفُوسِ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: الْعِبَادَةُ لَهُ وَاجِبَةٌ، فَالشُّكْرُ لَهُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ لِمَنْ هُوَ مُتَحَقِّقُ الْعُبُودِيَّةِ إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي، لَا تُرِيدُ بِذَلِكَ التَّعْلِيقَ الْمَحْضَ، بَلْ تُبْرِزُهُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ، لِيَكُونَ أدعى للطاعة وأهزلها.
وقيل: عبر بالعبادة عن الْعِرْفَانِ، كَمَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «٢».
قِيلَ: مَعْنَاهُ لِيَعْرِفُونِ، فيكون المعنى: أشكروا لله إِنْ كُنْتُمْ عَارِفِينَ بِهِ وَبِنِعَمِهِ، وَذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقِ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْعِبَادَةِ عَنْ إِرَادَةِ الْعِبَادَةِ، أَيِ اشْكُرُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ عِبَادَتَهُ، لِأَنَّ الشُّكْرَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ صَحَّ أَنَّكُمْ تَخْتَصُّونَهُ بِالْعِبَادَةِ وَتُقِرُّونَ أَنَّهُ مَوْلَى النِّعَمِ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي.
انْتَهَى كَلَامُهُ. وَإِيَّا هُنَا مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ، وَقُدِّمَ لِكَوْنِ الْعَامِلِ فِيهِ وَقَعَ رَأْسَ آيَةٍ، وَلِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَالتَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ، لِأَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا فِي قَوْلِكَ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «٣»، وَهَذَا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا انْفِصَالُ الضَّمِيرِ، وَهُوَ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى الْعَامِلِ أَوْ تَأَخَّرَ، لَمْ يَنْفَصِلْ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ، قَالَ:
إليك حتى بلغت إياكا إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ «٤». وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: حَرَّمَ مُسْنَدًا إِلَى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، وَمَا بَعْدَهُ نُصِبَ، فَتَكُونُ مَا مُهَيِّئَةً فِي إِنَّمَا هَيَّأَتْ إِنَّ لِوِلَايَتِهَا الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِرَفْعِ الْمَيْتَةِ وَمَا بَعْدَهَا، فَتَكُونُ مَا مَوْصُولَةً اسْمَ إِنَّ، وَالْعَائِدُ عَلَيْهَا مَحْذُوفٌ، أَيْ إِنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ الْمَيْتَةَ، وما بعدها خبران. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: حُرِّمَ، مشددا مبنيا للمفعول،
(٢) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٦.
(٣) سورة الفاتحة: ١/ ٥.
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١١.