يطابقه من قوله أَهْلِ الْحَقِّ، ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ: طَلَبَ أَنْ يَفْتِنُوا النَّاسَ عن دينهم ويضلوهم، وابتغاء تَأْوِيلِهِ: طَلَبَ أَنْ يُؤَوِّلُوُهُ التَّأْوِيلَ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ:
إِلَّا اللَّهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَالْحَسَنِ، وَعُرْوَةَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبِي نَهِيكٍ الْأَسَدِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، والكسائي، والفراء، والجلبائي، وَالْأَخْفَشِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ: الْخَطَّابِيُّ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ.
وَيَكُونُ قوله وَالرَّاسِخُونَ مبتدأ ويَقُولُونَ خَبَرٌ عَنْهُ. وَقِيلَ: وَالرَّاسِخُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَ: يَقُولُونَ، حَالٌ مِنْهُمْ أَيْ: قَائِلِينَ. وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الدَّلِيلَ إِذَا دَلَّ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْمَجَازَاتِ، وَلَيْسَ التَّرْجِيحُ لِبَعْضٍ إِلَّا بِالْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَهِيَ ظَنِّيَّةٌ، وَالظَّنُّ لَا يَكْفِي فِي الْقَطْعِيَّاتِ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ طَالِبِ الْمُتَشَابِهِ، وَلَوْ كَانَ جَائِزًا لَمَا ذُمَّ بِأَنَّ طَلَبَ وَقْتِ السَّاعَةِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَهُوَ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، وَلَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّهُ مَدَحَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ لَمَا كَانَ فِي الْإِيمَانِ بِهِ مَدْحٌ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا عَلَى التَّفْصِيلِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ، وَإِنَّمَا الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الظَّاهِرِ، وَيُفَوِّضُونَ تَعْيِينَ الْمُرَادِ إِلَى عِلْمِهِ تَعَالَى، وَقَطَعُوا أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَحْمِلْهُمْ عَدَمُ التَّعْيِينِ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ: الرَّاسِخُونَ، معطوف عَلَى:
اللَّهُ، لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ: يَقُولُونَ، خَبَرَ مُبْتَدَأٍ وَتَقْدِيرُهُ: هَؤُلَاءِ، أَوْ: هُمْ، فيلزم الإضمار، أو حال وَالْمُتَقَدِّمُ: اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الرَّاسِخِينَ فَقَطْ، وَفِيهِ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ. وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يَقْتَضِي فَائِدَةً، وَهُوَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا عَرَفُوا بِتَفْصِيلِهِ وَمَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّفْصِيلِ فِي الْكُلِّ عُرِّيَ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَلَمَّا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ لَا يَقَعُ جَهْلُهُ، وَتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَسُئِلَ مَالِكٌ، فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ. انْتَهَى مَا رُجِّحَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ


الصفحة التالية
Icon