وَتَأَلَّفَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْمُفْرِطَةِ وَالْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ- وَهُوَ الدِّينُ- وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ- وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، بِدَيْمُومَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ إِذْ كَانُوا مُعْتَصِمِينَ وَمُؤْتَلِفِينَ- ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِصَامِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَائْتِلَافِ الْقُلُوبِ إِنَّمَا كَانَ سَبَبُهُ إِنْعَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. إِذْ حَصَلَ مِنْهُ تَعَالَى خَلْقُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي قُلُوبِهِمُ الْمُسْتَلْزَمَةِ بِحُصُولِ الْفِعْلِ، فَذَكَّرَ بِالنِّعْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. أَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَتَأَلُّفُ قُلُوبِهِمْ وَصَيْرُورَتُهُمْ إِخْوَةً في الله متراحمين بعد ما أَقَامُوا مُتَحَارِبِينَ مُتَقَاتِلِينَ نَحْوًا مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ إِلَى أَنْ أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ بِالْإِسْلَامِ. وَكَانَ أَعْنِي- الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ- جَدَّاهُمْ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ. وَأَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ فَإِنْقَاذُهُمْ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَشَفَوْا عَلَى دُخُولِهَا. وَبَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ النِّعْمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِأَنَّهَا أَسْبَقُ بِالْفِعْلِ، وَلِاتِّصَالِهَا بِقَوْلِهِ: وَلا تَفَرَّقُوا وَصَارَ نَظِيرَ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ «١» وَمَعْنَى فَأَصْبَحْتُمْ، أَيْ صِرْتُمْ.
وَأَصْبَحَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُفْرَدَاتِ تُسْتَعْمَلُ لِاتِّصَافِ الْمَوْصُوفِ بِصِفَتِهِ وَقْتَ الصَّبَاحِ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى صَارَ، فَلَا يُلْحَظُ فِيهَا وَقْتُ الصَّبَاحِ بَلْ مُطْلَقُ الِانْتِقَالِ وَالصَّيْرُورَةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا | أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا |
فَالْحَالُ الَّتِي يَحْسَبُهَا الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ فِيهَا هِيَ الْحَالُ الَّتِي يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا يَوْمُهُ فِي الْأَغْلَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ ضَبُعٍ:
أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا | أَمْلِكُ رَأْسَ الْبَعِيرِ إِنْ نَفَرَا |