يَقْتَضِي الِارْتِدَادَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ «١» بَلْ هُوَ مَا يَقْتَضِي الْبُغْضَ وَعَدَمَ الْمَوَدَّةِ. وَكَانَ أَبُو الْجَوْزَاءِ إِذَا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: هُمُ الْأَبَاضِيَّةُ. وَهَذِهِ الصِّفَةُ قَدْ تَتَرَتَّبُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ النَّاسِ إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ مُنَافِقِي الْيَهُودِ لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ فِي الظَّاهِرِ إِيمَانًا مُطْلَقًا وَيَكْفُرُونَ فِي الْبَاطِنِ إِلَّا مَا روي من أمر زيد فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ كَانُوا يَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ لَمْ يَرْوِ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ زَيْدٍ الْقَيْنُقَاعِيِّ لَكَانَ فِي ذَلِكَ مَذَمَّةٌ لَهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي جِنْسِهِمْ. وَكَثِيرًا مَا تَمْدَحُ الْعَرَبُ أَوْ تَذُمُّ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ، وَيُؤَيِّدُ صُدُورَ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ «٢».
وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا هَذَا الْإِخْبَارُ جَرَى عَلَى مُنَازَعَتِهِمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالسِّتْرِ وَالْخُبْثِ، إِذْ لَمْ يَذْكُرُوا مُتَعَلِّقَ الْإِيمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ يُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ.
وَإِذا خَلَوْا أَيْ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَانْفَرَدُوا دُونَكُمْ. وَالْمَعْنَى: خَلَتْ مَجَالِسُهُمْ، مِنْكُمْ، فَأَسْنَدَ الْخُلُوَّ إِلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.
عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وَظَاهِرُهُ فِعْلُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَقَعُ مِنْهُمْ عَضُّ الْأَنَامِلِ لِشِدَّةِ الْغَيْظِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْفَاذِ مَا يُرِيدُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ:
وَقَدْ صَالَحُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَشِحَّةً | يَعَضُّونَ عَضًّا خَلْفَنَا بِالْأَبَاهِمِ |
وَقَالَ الْآخَرُ:إِذَا رَأَوْنِي أَطَالَ اللَّهُ غَيْظَهُمُ | عَضُّوا مِنَ الْغَيْظِ أَطْرَافَ الْأَبَاهِيمِ |
وَقَالَ الْآخَرُ:وَقَدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فما كان نصرها | قتيببة إِلَّا عَضَّهَا بِالْأَبَاهِمِ |
وَقَالَ الْحَرْثُ بْنُ ظَالِمٍ الْمُرِّيُّ:
وَأَقْبَلَ أَقْوَامًا لِئَامًا أَذِلَّةً | يعضون من غيظ رؤوس الْأَبَاهِمِ |
وَيُوصَفُ الْمُغْتَاظُ وَالنَّادِمُ بِعَضِّ الْأَنَامِلِ وَالْبَنَانِ وَالْإِبْهَامِ. وَهَذَا الْعَضُّ هُوَ بِالْأَسْنَانِ،