بِهَا بِالْفِعْلِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ إِظْهَارُهُ الْمُخْتَزَلِ، لِلدَّلَالَةِ الَّتِي فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: ثَبَتَ ذَلِكَ هَنِيئًا مَرِيئًا انْتَهَى. وَقَالَ كُثَيِّرٌ:

هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعِزَّةٍ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
قِيلَ: وَاشْتِقَاقُ الْهَنِيءِ مِنْ هِنَاءِ الْبَعِيرِ، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ مِنَ الْجَرَبِ، وَيُوضَعُ فِي عَقْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
مُتَبَذِّلٌ تَبْدُو مَحَاسِنُهُ يَضَعُ الْهِنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقَبِ
وَالْمَرِيءُ مَا يُسَاغُ فِي الْحَلْقِ، وَمِنْهُ قِيلٌ لِمَجْرَى الطَّعَامِ فِي الْحُلْقُومِ إِلَى فَمِ الْمَعِدَةِ:
الْمَرِيءُ. آنَسَ كَذَا أَحَسَّ بِهِ وَشَعَرَ. قَالَ:
آنَسْتُ شَاةً وَأَفْزَعَهَا الْقَنَّاصُ عصرا وقددنا الْإِمْسَاءُ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَدَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: عَلِمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَبْصَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
عَرَفَ. وَهِيَ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ. السَّدِيدُ مِنَ الْقَوْلِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْحَقِّ مِنْهُ:
أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي
الْمَعْنَى: لَمَّا وَافَقَ الْأَغْرَاضَ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا. صَلَى بِالنَّارِ تَسَخَّنَ بِهَا، وَصَلَيْتُهُ أَدْنَيْتُهُ مِنْهَا. التَّسْعِيرُ: الْجَمْرُ الْمُشْتَعِلُ مِنْ سَعَّرْتُ النَّارَ أَوْقَدْتُهَا، وَمِنْهُ مِسْعَرُ حَرْبٍ.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «١». وَقَالَ النَّحَّاسُ: مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ عِنْدَ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْتَهَى. وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهَا مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ:
آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «٢».
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُؤْمِنِينَ أُولِي الْأَلْبَابِ، وَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ «٣» عَلَى الْمُجَازَاةِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي أَصْلِ التَّوَالُدِ، نَبَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى إِيجَادِ الْأَصْلِ، وَتَفَرُّعِ الْعَالَمِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْهُ لِيَحُثَّ عَلَى التَّوَافُقِ وَالتَّوَادِّ وَالتَّعَاطُفِ وعدم
(١) سورة النساء: ٤/ ٥٨.
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٧٦.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ١٩٥.


الصفحة التالية
Icon