وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا «١» وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً «٢» جُمَلٌ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبَدَأَ بِهِ. وَيُضَعِّفُهُ أَنَّ هَذِهِ جُمَلٌ ثَلَاثٌ، وَإِذَا كَانَ الْفَارِسِيُّ قَدْ مَنَعَ أَنْ يُعْتَرَضَ بِجُمْلَتَيْنِ، فَأَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ أَنْ يُعْتَرَضَ بِثَلَاثٍ.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أَيْ: كَلِمَ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. أَوْ كَلِمَ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ، أَوْ كَلِمَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: كَانَ الْيَهُودُ يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الْأَمْرِ فَيُخْبِرُهُمْ، وَيَرَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، فَإِذَا انْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ حَرَّفُوا الْكَلَامَ.
وَكَذَا قَالَ مَكِّيٌّ: إِنَّهُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَحْرِيفُ كَلِمِ التَّوْرَاةِ بِتَغْيِيرِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ لِتَحْرِيفِهِمْ أَسْمَرَ رَبْعَةً فِي صِفَتِهِ عَلَيْهِ السلام بآدم طُوَالٍ مَكَانَهُ، وَتَحْرِيفِهِمُ الرَّجْمَ بِالْحَدِيدِ لَهُ، وَبِتَغْيِيرِ التَّأْوِيلِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ التَّوْرَاةَ بِغَيْرِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ مَعَانِي ألفاظها الأمور يَخْتَارُونَهَا وَيَتَوَصَّلُونَ بِهَا إِلَى أَمْوَالِ سِفْلَتِهِمْ، وَأَنَّ التَّحْرِيفَ فِي كَلِمِ الْقُرْآنِ أَوْ كَلِمِ الرَّسُولِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي التأويل.
وقرىء: يُحَرِّفُونَ الْكِلْمَ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ، جَمْعُ كِلْمَةٍ تَخْفِيفِ كَلِمَةٍ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ: يُحَرِّفُونَ الْكَلَامَ، وَجَاءَ هُنَا عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَفِي الْمَائِدَةِ جَاءَ: عَنْ مَواضِعِهِ «٣» وَجَاءَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ «٤».
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَمَّا عَنْ مَوَاضِعِهِ فَعَلَى مَا فَسَّرْنَا مِنْ إِزَالَتِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وَضْعَهُ فِيهَا بِمَا اقْتَضَتْ شَهَوَاتُهُمْ مِنْ إِبْدَالِ غَيْرِهِ مَكَانَهُ. وَأَمَّا مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ:
فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مَوَاضِعُ هُوَ قَمِنٌ بَأَنْ يَكُونَ فِيهَا، فَحِينَ حَرَّفُوهُ تَرَكُوهُ كَالْغَرِيبِ الَّذِي لَا مَوْضِعَ لَهُ بَعْدَ مَوَاضِعِهِ وَمَقَارِّهِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا سِيَاقَانِ، فَحَيْثُ وُصِفُوا بِشِدَّةِ التَّمَرُّدِ وَالطُّغْيَانِ، وَإِظْهَارِ الْعَدَاوَةِ، وَاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ، وَنَقْضِ الْمِيثَاقِ، جَاءَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا «٥» وَقَوْلِهِ: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «٦» فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا الْكَلِمَ مِنَ التَّحْرِيفِ عَنْ مَا يُرَادُ بِهَا، وَلَمْ تَسْتَقِرَّ فِي مَوَاضِعِهَا، فَيَكُونُ التَّحْرِيفُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا، بَلْ بَادَرُوا إِلَى تَحْرِيفِهَا بِأَوَّلِ وهلة. وحيث

(١) سورة النساء: ٤/ ٤٥.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٤٥.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ١٣.
(٤) سورة المائدة: ٥/ ٤١.
(٥) سورة النساء: ٤/ ٤٦.
(٦) سورة المائدة: ٥/ ١٣.


الصفحة التالية
Icon