وَالْمُوَطِّئَةِ لِلْجَوَابِ، لَا لِلشَّرْطِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَكَانَ بِالْفَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ جواب الشرط منفيا بما فلابد مِنَ الْفَاءِ كَقَوْلِهِ:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ «١» مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا: وَلَوْ كَانَ أَيْضًا جَوَابًا لِلشَّرْطِ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ خَرْمُ الْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْقَسَمُ عَلَى الشَّرْطِ فَالْجَوَابُ لِلْقَسَمِ لَا لِلشَّرْطِ. وَقَدْ خَالَفَ الزَّمَخْشَرِيُّ كَلَامَهُ هَذَا بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ «٢». فَقَالَ: مَا تَبِعُوا جَوَابَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَتَكَلَّمْنَا مَعَهُ هُنَاكَ فَيُنْظَرُ.
إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ هَذَا ذِكْرٌ لِعِلَّةِ الِامْتِنَاعِ فِي بَسْطِ يَدِهِ إِلَيْهِ لِلْقَتْلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَخَافُ اللَّهَ.
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا مَجَازٌ لَا مَحَبَّةُ إِيثَارِ شَهْوَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ تَخْيِيرٌ فِي شَرَّيْنِ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي الشَّرِّ خِيَارٌ، وَالْمَعْنَى: إِنْ قَتَلْتَنِي وَسَبَقَ بِذَلِكَ قَدَرٌ، فَاخْتِيَارِي أَنْ أَكُونَ مَظْلُومًا يَنْتَصِرُ اللَّهُ لِي فِي الْآخِرَةِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ هُنَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، لَا يُقَالُ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُرِيدَ شَقَاوَةَ أَخِيهِ وَتَعْذِيبَهُ بِالنَّارِ، لِأَنَّ جَزَاءَ الظَّالِمِ حَسَنٌ أَنْ يُرَادَ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ أَنْ يُرِيدَهُ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا مَا هُوَ حَسَنٌ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّمَا وَقَعَتِ الْإِرَادَةُ بَعْدَ مَا بَسَطَ يَدَهُ لِلْقَتْلِ وَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ، فَصَارَ بِذَلِكَ كَافِرًا لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَالْكَافِرُ يُرِيدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشَّرُّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ:
لَأَقْتُلَنَّكَ اسْتَوْجَبَ النَّارَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُرِيدَ مَا أَرَادَ اللَّهُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمَا آثِمَانِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عباس، والحسن وقتادة: تَحْمِلُ إِثْمَ قَتْلِي وَإِثْمَكَ الَّذِي كَانَ مِنْكَ قَبْلَ قَتْلِي، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِإِثْمِ قَتْلِي وَإِثْمِكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُكَ، وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا قَبْلَهُ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى بِإِثْمِي أَنْ لَوْ قَاتَلْتُكَ وَقَتَلْتُكَ، وَإِثْمِ نَفْسِكَ فِي قِتَالِي وَقَتْلِي، وَهَذَا هُوَ الْإِثْمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»
فَكَأَنَّ هَابِيلَ أَرَادَ أَنِّي لَسْتُ بِحَرِيصٍ عَلَى قَتْلِكَ، فَالْإِثْمُ الَّذِي كَانَ يَلْحَقُنِي لَوْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِكَ أُرِيدُ أَنْ تَحْمِلَهُ أَنْتَ مَعَ إِثْمِكَ فِي قَتْلِي.

(١) سورة يونس: ١٠/ ١٥.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ١٤٥.


الصفحة التالية
Icon