كَبُرَ أَيْ عَظُمَ وَشَقَّ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ إِعْرَاضُهُمْ لَكِنْ جَاءَ الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا فِيهِ التَّبْيِينُ وَالظُّهُورُ، وَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ الَّذِي لَمْ يَقَعْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ وَلَيْسَ مَقْصُودًا وَحْدَهُ بِالْجَوَابِ فَمَجْمُوعُ الشَّرْطَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَقَعْ بَلِ الْمَجْمُوعُ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ أَحَدِهِمَا بانفراده واقع وَنَظِيرُهُ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ «١» وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ «٢» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَحَدُهُمَا، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَتَبَيَّنَ وَيَظْهَرَ كَوْنُهُ قُدَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا يَتَأَوَّلُ مَا يَجِيءُ مِنْ دُخُولِ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى صِيغَةِ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ خِلَافًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدِ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ إِنْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى كَانَ بَقِيَتْ عَلَى مُضِيِّهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَالنَّفَقُ السِّرْبُ فِي دَاخِلِ الْأَرْضِ الَّذِي يُتَوَارَى فِيهِ. وَقَرَأَ نبيج الْغَنَوِيُّ أَنْ تَبْتَغِيَ نَافِقًا فِي الْأَرْضِ وَالنَّافِقَاءُ مَمْدُودٌ وَهُوَ أَحَدُ مَخَارِجِ جُحْرِ الْيَرْبُوعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَرْبُوعَ يَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ إِلَى وَجْهِهَا وَيُرِقُّ مَا واجه الأرض ويجعل للحجر بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا النَّافِقَاءُ وَالْآخَرُ الْقَاصِعَاءُ، فَإِذَا رَابَهُ أَمْرٌ مِنْ أَحَدِهِمَا دَفَعَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الَّذِي أَرَّقَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَخَرَجَ مِنْهُ. وَقِيلَ: لِجُحْرِهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: السُّلَّمُ الْمِصْعَدُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الدَّرَجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّبَبُ وَالْمِرْقَاةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: اتَّخِذْنِي سُلَّمًا لِحَاجَتِكَ أَيْ سَبَبًا. وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

وَلَا لَكُمَا مَنْجًى مِنَ الْأَرْضِ فَابْغِيَا بِهِ نَفَقًا أَوْ في السموات سُلَّمَا
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السُّلَّمُ مِنَ السَّلَامَةِ وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إِلَى مِصْعَدِكَ، وَالسُّلَّمُ الَّذِي يُصْعَدُ عَلَيْهِ وَيُرْتَقَى وَهُوَ مُذَكَّرٌ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ فِيهِ التَّأْنِيثَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: تَأْنِيثُهُ عَلَى مَعْنَى الْمِرْقَاةِ لَا بِالْوَضْعِ كَمَا أُنِّثَ، الصَّوْتُ بِمَعْنَى الصَّيْحَةِ وَالِاسْتِغَاثَةِ فِي قَوْلِهِ: سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ. وَمَعْنَى الْآيَةِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَعْنِي أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِ قَوْمِهِ وَتَهَالُكِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ أَوْ مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ لَأَتَى بِهَا رَجَاءَ إِيمَانِهِمْ. وَقِيلَ: كَانُوا يَقْتَرِحُونَ الْآيَاتِ فَكَانَ يَوَدُّ أَنْ يُجَابُوا إِلَيْهَا لِتَمَادِي حِرْصِهِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ كَذَا فَافْعَلْ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ مِنْ حِرْصِهِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَنَّ الْآيَةَ هِيَ غَيْرُ ابْتِغَاءِ النَّفَقِ فِي الْأَرْضِ أَوِ السُّلَّمِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ فَتَدْخُلَ فِيهِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدَ عَلَيْهِ إِلَيْهَا فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ غَيْرَ الدُّخُولِ فِي السِّرْبِ وَالصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ مِمَّا يُرْجَى إيمانهم بسببها أو
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٢٦.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٢٧.


الصفحة التالية
Icon