وَالْأَقْرَبِينَ
قَالَ الطَّبَرِيُّ: هِيَ سَبَبُ نَازِلَةِ ابْنِ أُبَيْرِقٍ وَقِيَامِ مَنْ قَامَ فِي أَمْرِهِ بِغَيْرِ الْقِسْطِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي اخْتِصَامِ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ النِّسَاءَ وَالنُّشُوزَ وَالْمُصَالَحَةَ، أَعْقَبَهُ بِالْقِيَامِ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الشَّهَادَةِ حُقُوقُ اللَّهِ. أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى طَالِبَ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ عِنْدَهُ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ وَفِعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى «١» وَالْإِشْهَادُ عِنْدَ دَفْعِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى إِلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَكَرَ قِصَّةَ ابْنِ أُبَيْرِقٍ وَاجْتِمَاعَ قَوْمِهِ عَلَى الْكَذِبِ وَالشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ، وَنَدَبَ لِلْمُصَالَحَةِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِيَامِ بِالْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَوَّامِينَ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْهُمُ جَوْرٌ مَا، وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ. وَمَعْنَى شُهَدَاءَ لِلَّهِ أَيْ: لِوَجْهِ اللَّهِ، لَا يُرَاعِي فِي الشَّهَادَةِ إِلَّا جِهَةَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: شُهَدَاءَ لِلَّهِ مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: ولو على أنفسكم، وَهَكَذَا فَسَّرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. قَالَ ابن عطية:
ويحتمل أن يَكُونَ قَوْلُهُ: شُهَدَاءَ لِلَّهِ مَعْنَاهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، بِقَوْلِهِ: قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَبْيَنُ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَيُضَعِّفُهُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ شُهَدَاءُ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، إِلَّا إِنْ أُرِيدَ اسْتِمْرَارُ الشَّهَادَةِ.
وَتَقَدَّمَتْ صِفَةُ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ عَلَى شُهَدَاءَ لِلَّهِ. لِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ أَعَمُّ، وَالشَّهَادَةَ أَخَصُّ. وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِالْقِسْطِ فِعْلٌ وَقَوْلٌ، وَالشَّهَادَةَ قَوْلٌ فَقَطْ. وَمَعْنَى: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، أَيْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَيْ تُقِرُّونَ بِالْحَقِّ وَتُقِيمُونَ الْقِسْطَ عَلَيْهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْفُسَ الشُّهَدَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَبْعَدَ مَنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي أَنْفُسِكُمْ:
الْأَهْلُ وَالْأَقَارِبُ، وَأَنْ يَكُونَ «أَوِ الْوَالِدَيْنِ» تَفْسِيرًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَيُضَعِّفُهُ الْعَطْفُ بأو. وَانْتَصَبَ شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى جَعْلِهِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوَّامِينَ كَأَبِي الْبَقَاءِ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ. لأن فيها تقييدا لقيام بِالْقِسْطِ، سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَ هَذَا أَمْ لَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ الضَّعِيفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْعَدْلِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَنْ كَانَ وَمَجِيءُ لَوْ هُنَا لِاسْتِقْصَاءِ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الشَّهَادَةُ، لَمَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِصَدَدِ أَنْ لَا يُقِيمَهَا لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْمَرْءُ

(١) سورة النساء: ٤/ ٣.


الصفحة التالية
Icon