الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ زَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُضُوحًا فِي التَّرْجِيحِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُفْتَخِرِينَ بِالسِّقَايَةِ وَالْعِمَارَةِ، فَطَهَّرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ دَنَسِ الشِّرْكِ بِالْإِيمَانِ، وَطَهَّرُوا أَبْدَانَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى مَوْطِنِ الرَّسُولِ وَتَرْكِ ديارهم التي نشأوا عَلَيْهَا، ثُمَّ بَالَغُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، الْمُعَرَّضَيْنِ بِالْجِهَادِ لِلتَّلَفِ. فَهَذِهِ الْخِصَالُ أَعْظَمُ دَرَجَاتِ البشرية، وأعظم هُنَا يَسُوغُ أَنْ تَبْقَى عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِقَادِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ فِي سِقَايَتِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ فَضِيلَةً، فَخُوطِبُوا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا وَلَمْ يُجَاهِدُوا. وَقِيلَ: أَعْظَمُ لَيْسَتْ عَلَى بَابِهَا، بَلْ هِيَ كَقَوْلِهِ: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «١». وَقَوْلُ حسان:
فشركما لخير كما الْفِدَاءُ وَكَأَنَّهُ قِيلَ: عَظِيمُونَ درجة. وعند اللَّهِ بِالْمَكَانَةِ لَا بِالْمَكَانِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ «٢» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَرْوَاحُ الْمُقَدَّسَةُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا تَطَهَّرَتْ عَنْ دَنَسِ الْأَوْصَافِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَاذُورَاتِ الْجَسَدَانِيَّةِ أَشْرَقَتْ بأنوار الجلال وغلا فِيهَا أَضْوَاءُ عَالَمِ الْجَمَالِ، وَتَرَقَّتْ مِنَ الْعَبْدِيَّةِ إِلَى الْعِنْدِيَّةِ، بَلْ كَأَنَّهُ لَا كَمَالَ فِي الْعَبْدِيَّةِ إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ الْعِنْدِيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا «٣» انْتَهَى، وَهُوَ شَبِيهٌ بِكَلَامِ الصُّوفِيَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ هُوَ الْفَائِزُ الظَّافِرُ بِأُمْنِيَتِهِ، النَّاجِي مِنَ النَّارِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ فِي الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً انْتَهَى، وَأُسْنِدَ التَّبْشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: رَبُّهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَالِكَ أَمْرِهِمْ وَالنَّاظِرَ فِي مَصَالِحِهِمْ هُوَ الَّذِي يُبَشِّرُهُمْ، فَذَلِكَ عَلَى تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِمْ لِرَبِّهِمْ. وَلَمَّا كَانَتِ الْأَوْصَافُ الَّتِي تَحَلَّوْا بِهَا وَصَارُوا بِهَا عَبِيدَهَ حَقِيقَةً هِيَ ثَلَاثَةٌ: الْإِيمَانُ، وَالْهِجْرَةُ، وَالْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، قُوبِلُوا فِي التَّبْشِيرِ بِثَلَاثَةٍ: الرَّحْمَةِ، وَالرِّضْوَانِ، وَالْجَنَّاتِ. فَبَدَأَ بِالرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا الْوَصْفُ الْأَعَمُّ النَّاشِئُ عَنْهَا تَيْسِيرُ الْإِيمَانِ لَهُمْ، وَثَنَّى بِالرِّضْوَانِ لِأَنَّهُ الْغَايَةُ مِنْ إِحْسَانِ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْجِهَادِ، إِذْ هو

(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢٤.
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٩.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١.


الصفحة التالية
Icon