كَذِبًا وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَعَنَّفَهُمْ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا كُنَّا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ وَلَا أَمْرِ أَصْحَابِكَ، إِنَّمَا كُنَّا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخُوضُ فِيهِ الرَّكْبُ، كُنَّا فِي غَيْرِ جِدٍّ. قل: أبا لله تَقْرِيرٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، وَضَمَّنَهُ الْوَعِيدَ، وَلَمْ يَعْبَأْ بِاعْتِذَارِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِيهِ، فَجُعِلُوا كَأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِاسْتِهْزَائِهِمْ وَبِأَنَّهُ مَوْجُودٌ مِنْهُمْ، حَتَّى وُبِّخُوا بِأَخْطَائِهِمْ مَوْضِعَ الِاسْتِهْزَاءِ، حَيْثُ جُعِلَ الْمُسْتَهْزَأُ بِهِ عَلَى حَرْفِ التَّقْرِيرِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ بَعْدَ وُقُوعِ الِاسْتِهْزَاءِ وَثُبُوتِهِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَتَقْدِيمُ بِاللَّهِ وَهُوَ مَعْمُولُ خَبَرِ كَانَ عَلَيْهَا، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ يَعْنِي: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ وَدِيعَةَ بْنَ ثَابِتٍ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَاشِيهَا وَالْحِجَارَةُ تَنْكُتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ يقول: «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون؟»
وَذُكِرَ أَنَّ هَذَا الْمُتَعَلِّقَ عبد الله بن أبي بْنِ سَلُولَ، وَذَلِكَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ تَبُوكَ.
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ: نُهُوا عَنِ الِاعْتِذَارِ، لِأَنَّهَا اعْتِذَارَاتٌ كَاذِبَةٌ فَهِيَ لَا تَنْفَعُ. قَدْ كَفَرْتُمْ أَظْهَرْتُمُ الْكُفْرَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أَيْ: بَعْدَ إِظْهَارِ إِيمَانِكُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسِرُّونَ الْكُفْرَ فَأَظْهَرُوهُ بِاسْتِهْزَائِهِمْ، وَجَاءَ التَّقْسِيمُ بِالْعَفْوِ عَنْ طَائِفَةٍ، وَالتَّعْذِيبِ لِطَائِفَةٍ. وَكَانَ الْمُنَافِقُونَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ أُمِرَ بِجِهَادِهِمْ: «جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ» «١» وَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الْمُعْلِنُونَ بِالْأَرَاجِيفِ، فَعُذِّبُوا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَانْكِشَافِ مُعْظَمِ أَحْوَالِهِمْ. وَصِنْفٌ ضَعَفَةٌ مُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَإِنْ أَبْطَنُوا الْكُفْرَ، لَمْ يؤذوا الرسول فعفى عَنْهُمْ، وَهَذَا الْعَذَابُ وَالْعَفْوُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْمَعْفُوُّ عَنْهَا مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ سَيُخْلِصُونَ مِنَ النِّفَاقِ وَيُخْلِصُونَ الْإِيمَانَ، وَالْمُعَذَّبُونَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى نِفَاقِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْفُوُّ عَنْهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ مَخْشِيُّ بْنُ حمير بضم الخاء وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، كَانَ مَعَ الَّذِينَ قَالُوا: «إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» «٢» وَقِيلَ: كَانَ مُنَافِقًا ثُمَّ تَابَ تَوْبَةً صَحِيحَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا مُخْلِصًا، إِلَّا أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ الْمُنَافِقِينَ فَضَحِكَ لَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ وَقَدْ كَانَ تَابَ، وَيُسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَدَعَا اللَّهُ أَنْ يستشهدوا وَيُجْهَلَ أَمْرُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ بِالْيَمَامَةِ وَلَمْ يُوجَدْ جَسَدُهُ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَاصِمُ مِنَ السَّبْعَةِ: إِنْ نَعْفُ بِالنُّونِ، نُعَذِّبْ بِالنُّونِ طَائِفَةً. وَلَقِيَنِي شَيْخُنَا الْأَدِيبُ الْحَامِلُ أَبُو الْحَكَمِ مَالِكُ بْنُ الْمُرَحِّلِ

(١) سورة التوبة: ٩/ ٧٣.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٦٥.


الصفحة التالية
Icon