الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَكَفَى الْمُسْلِمَ زَاجِرًا أَنْ يُلِمَّ بِمَا يُكْسِبُ هَذَا الِاسْمَ الْفَاحِشَ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ: الْكُفَّارُ هُنَا الْمُعْلِنُونَ بِالْكُفْرِ، وخالدين فِيهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، لِأَنَّ الْخُلُودَ لَمْ يُقَارِنِ الْوَعْدَ. وحسبهم كَافِيهُمْ، وَذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي عظم عَذَابِهِمْ، إِذْ عَذَابُهُمْ شَيْءٌ لا يزاد عليه، ولعنهم أَهَانَهُمْ مَعَ التَّعْذِيبِ وَجَعَلَهُمْ مَذْمُومِينَ مُلْحَقِينَ بِالشَّيَاطِينِ الْمَلَاعِينِ كَمَا عَظَّمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَلْحَقَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ. مُقِيمٌ: مُؤَبَّدٌ لَا نَقْلَةَ فِيهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ مَعَهُمْ فِي الْعَاجِلِ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، وَهُوَ مَا يُقَاسُونَهُ مِنْ تَعَبِ النِّفَاقِ. وَالظَّاهِرُ الْمُخَالِفُ لِلْبَاطِنِ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَحْذَرُونَهُ أَبَدًا مِنَ الْفَضِيحَةِ وَنُزُولِ الْعَذَابِ إِنِ اطُّلِعَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: هَذَا الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّشْبِيهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ أَيْ: فَعَلْتُمْ كَأَفْعَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَعَدَ كَمَا وَعَدَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِوَعَدَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا قَلَقٌ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَقِيلَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ التَّقْدِيرُ أَنْتُمْ كَالَّذِينَ. وَالتَّشْبِيهُ وَقَعَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالْخَوْضِ. وَقَوْلُهُ: كَانُوا أَشَدَّ، تَفْسِيرٌ لِشَبَهِهِمْ بِهِمْ، وَتَمْثِيلٌ لِفِعْلِهِمْ بِفِعْلِهِمْ. وَالْخَلَاقُ: النَّصِيبُ أَيْ: مَا قُدِّرَ لَهُمْ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ، وَقَوْلُهُ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ مُغْنٍ عَنْهُ، كَمَا أَغْنَى كَالَّذِي خَاضُوا؟ (قُلْتُ) : فَائِدَتُهُ أَنْ قَدَّمَ الْأَوَّلِينَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مَا أُوتُوا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَرِضَاهُمْ بِهَا، وَالْتِهَائِهِمْ، فَشَبَّهُوا بِهِمُ الْفَانِيَةَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْعَاقِبَةِ، وَطَلَبِ الْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يُخَسَّسَ أَمْرُ الِاسْتِمْتَاعِ وَيُهَجَّنَ أَمْرَ الرَّاضِي بِهِ، ثُمَّ شَبَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ حَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِهِمْ كَمَا يُرِيدُ أَنْ يُنَبِّهَ بَعْضَ الظَّلَمَةِ عَلَى سَمَاجَةِ فِعْلِهِ فَيَقُولُ: أَنْتَ مِثْلُ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقْتُلُ بِغَيْرِ جُرْمٍ وَيُعَذِّبُ وَيَعْسِفُ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ. وَأَمَّا وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا فَمَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مُسْتَنِدٌ إِلَيْهِ مُسْتَغْنٍ


الصفحة التالية
Icon