الْمُدَّةُ أُمَّةً، لِأَنَّهَا يُقْضَى فِيهَا أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ وَتَحْدُثُ أُخْرَى، فَهِيَ عَلَى هَذَا الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ الْأَخْبَارَ بِأَنَّهُ يَوْمٌ لَا يَرُدُّهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْرِفُهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَوْمَ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ:
مَصْرُوفًا، فَهُوَ مَعْمُولٌ لِخَبَرِ لَيْسَ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ خَبَرِ لَيْسَ عَلَيْهَا قَالُوا: لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْمَعْمُولِ يُؤْذِنُ بِتَقَدُّمِ الْعَامِلِ، وَنُسِبَ هذا المذهب لسيبويه، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْبَصْرِيِّينَ.
وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ وَالْمُبَرِّدُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا يَدُلُّ جَوَازُ تَقَدُّمِ الْمَعْمُولِ عَلَى جَوَازِ تَقَدُّمِ الْعَامِلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الظَّرْفَ الْمَجْرُورَ يَتَّسِعُ فِيهِمَا مَا لَا يَتَّسِعُ فِي غَيْرِهِمَا، وَيَقَعَانِ حَيْثُ لَا يَقَعُ الْعَامِلُ فِيهِمَا نَحْوَ: إِنَّ الْيَوْمَ زَيْدًا مُسَافِرٌ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ جُمْلَةً مِنْ دَوَاوِينِ الْعَرَبِ فَلَمْ أَظْفَرْ بِتَقَدُّمِ خَبَرِ لَيْسَ عَلَيْهَا، وَلَا بِمَعْمُولِهِ، إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَيَأْبَى فَمَا يَزْدَادُ إِلَّا لَجَاجَةً وَكُنْتُ أَبِيًّا فِي الْخَفَا لَسْتُ أَقْدُمُ
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ جُمْلَةِ وَحَاقَ بِهِمْ.
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَذَابَ الْكُفَّارِ وَإِنْ تَأَخَّرَ لَا بُدَّ أَنْ يَحِيقَ بِهِمْ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ وَكَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ الْعَذَابَ لما جبلوا عليه من كُفْرِ نَعْمَاءِ اللَّهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِحْسَانِهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنْ فَخْرِهِمْ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ هُنَا هُوَ جِنْسٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ هَذَا الْخُلُقَ فِي سَجَايَا النَّاسِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمُ الَّذِينَ رَدَّتْهُمُ الشَّرَائِعُ وَالْإِيمَانُ إِلَى الصَّبْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مُتَّصِلًا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ هُنَا بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الوليد بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ. وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا وَمَعْنَى رَحْمَةً: نِعْمَةً مِنْ صِحَّةٍ، وَأَمْنِ وَجْدَةٍ، ثُمَّ نَزَعْنَاهَا أَيْ سلبناها منه. ويؤوس كَفُورٌ، صِفَتَا مُبَالَغَةٍ وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ شَدِيدُ الْيَأْسِ كَثِيرُهُ، يَيْأَسُ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مِثْلُ تِلْكَ النِّعْمَةِ الْمَسْلُوبَةِ، وَيَقْطَعُ رَجَاءَهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ صَبْرٍ وَلَا تَسْلِيمٍ لِقَضَائِهِ. كَفُورٌ كَثِيرُ الْكُفْرَانِ، لِمَا سَلَفَ لِلَّهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ ذَكَرَ حَالَةَ الْإِنْسَانِ إِذْ بدىء بِالنِّعْمَةِ وَلَمْ يَسْبِقْهُ الضُّرُّ، ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُ إِذَا جَاءَتْهُ النِّعْمَةُ بَعْدَ الضُّرِّ. وَمَعْنَى ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ أَيِ: الْمَصَائِبُ الَّتِي تَسُوءُنِي. وَقَوْلُهُ هَذَا يَقْتَضِي نَظَرًا وَجَهْلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ


الصفحة التالية
Icon