أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَمْ مُنْقَطِعَةٌ تَتَقَدَّرُ بِبَلْ، وَالْهَمْزَةِ أَيْ: أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: أَمِ اسْتِفْهَامٌ تَوَسَّطَ الْكَلَامَ عَلَى مَعْنَى: أَيَكْتَفُونَ بِمَا أَوْحَيْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، أَمْ يَقُولُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنْ قَالُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِهِ انْتَهَى. فَجَعَلَ أَمْ مُتَّصِلَةً، وَالظَّاهِرُ الِانْقِطَاعُ كَمَا قُلْنَا، وَالضَّمِيرُ فِي افْتَرَاهُ عَائِدٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَا يُوحَى إِلَيْكَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ.
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ أَطْمَاعُهُمْ بِأَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ إِلَّا لِدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي افْتَرَاهُ، وَإِنَّمَا تَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا بِعَشْرِ سُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ قَبْلَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً، وَالْبَقَرَةُ مَدَنِيَّةً، وَسُورَةُ يُونُسَ أَيْضًا مَكِّيَّةً، وَمُقْتَضَى التَّحَدِّي بِعَشْرٍ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ طَلَبِ الْمُعَارَضَةِ بِسُورَةٍ، فَلَمَّا نَسَبُوهُ إِلَى الِافْتِرَاءِ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إِرْخَاءً لِعِنَانِهِمْ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَبُوا إِنِّي اخْتَلَقْتُهُ وَلَمْ يُوحَ إِلَيَّ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِكَلَامٍ مِثْلِهِ مُخْتَلَقٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، فَأَنْتُمْ عَرَبٌ فُصَحَاءُ مِثْلِي لَا تَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا عُيِّنَ بِقَوْلِهِ: مِثْلِهِ، فِي حُسْنِ النَّظْمِ وَالْبَيَانِ وَإِنْ كَانَ مُفْتَرًى. وَشَأْنُ مَنْ يُرِيدُ تَعْجِيزَ شَخْصٍ أَنْ يُطَالِبَهُ أَوَّلًا بِأَنْ يَفْعَلَ أَمْثَالًا مِمَّا فَعَلَ هُوَ، ثُمَّ إِذَا تَبَيَّنَ عَجْزُهُ قَالَ لَهُ: افْعَلْ مِثْلًا وَاحِدًا وَمِثْلُ يُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا «١» وَتَجُوزُ الْمُطَابَقَةُ فِي التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ «٢» وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ «٣» وَإِذَا أُفْرِدَ وَهُوَ تَابِعٌ لِمُثَنًّى أَوْ مَجْمُوعٍ فَهُوَ بِتَقْدِيرِ الْمُثَنَّى، وَالْمَجْمُوعِ أَيْ: مِثْلَيْنِ وَأَمْثَالٍ. وَالْمَعْنَى هُنَا بِعَشْرِ سُوَرٍ أَمْثَالِهِ ذَهَابًا إِلَى مُمَاثَلَةِ كُلِّ سُورَةٍ مِنْهَا لَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَعَ التَّحَدِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِعَشْرٍ لِأَنَّهُ قَيَّدَهَا بِالِافْتِرَاءِ، فَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي الْقَدْرِ لِتَقُومَ الْحُجَّةُ غَايَةَ الْقِيَامِ، إِذْ قَدْ عَجَّزَهُمْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ دُونَ تَقْيِيدٍ، فَهِيَ مُمَاثَلَةٌ تَامَّةٌ فِي غُيُوبِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَعُجِّزُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ قِيلَ لَهُمْ: عَارِضُوا الْقَدْرَ مِنْهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهِ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْغَرَضُ وَاحِدٌ، وَاجْعَلُوهُ مُفْتَرًى لَا يَبْقَى لَكُمْ إِلَّا نَظْمُهُ، فَهَذِهِ غَايَةُ التَّوْسِعَةِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَارِضُوا عَشْرَ سُوَرٍ بِعَشْرٍ، لِأَنَّ هَذِهِ إِنَّمَا كَانَتْ تَجِيءُ مُعَارَضَةَ سُورَةٍ بِسُورَةٍ مُفْتَرَاةٍ، وَلَا يُبَالِي عَنْ تَقْدِيمِ نُزُولِ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ

(١) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٤٧.
(٢) سورة محمد: ٤٧/ ١٨.
(٣) سورة الواقعة: ٥٦/ ٢٣.


الصفحة التالية
Icon