بِأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَيْسَ مُفْتَرًى فَتُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْأُلُوهِيَّةِ لَا يَشْرَكُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا آلِهَتُهُمْ وَأَصْنَامُهُمْ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجِيبُوا لِظُهُورِ عَجْزِهِمْ، وَأَنَّهَا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّمَا نَزَّلَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالزَّايِ وَتَشْدِيدِهَا، وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَا مَصْدَرِيَّةً أَيْ: إِنَّ التَّنْزِيلَ. وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي أَيْ: إِنَّ الَّذِي نَزَّلَهُ، وَحُذِفَ الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ لِوُجُودِ جَوَازِ الْحَذْفِ.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ:
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا، أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ الْمُنَاقِضِينَ فِي الْقُرْآنِ، ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الدنيوية وما يؤولون إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَظَاهِرٌ مِنَ الْعُمُومِ فِي كُلِّ مَنْ يُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْجَزَاءُ مَقْرُونٌ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ «١» الآية. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ فِي الْكَفَرَةِ، وَفِي أَهْلِ الرِّيَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَعُونَةُ حِينَ حُدِّثَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُرَائِينَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ أَنَسٌ: هِيَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا أَنَّهَا لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ جَاهَدُوا مَعَ الرَّسُولِ فَأَسْهَمَ لَهُمْ، وَمَعْنَى يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أَيْ يَقْصِدُ بِأَعْمَالِهِ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّهَا صَالِحَةٌ الدُّنْيَا فَقَطْ، وَلَا يَعْتَقِدُ آخِرَةً. فَإِنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِ عَلَى حُسْنِ أَعْمَالِهِ كَمَا جَاءَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعِمُهُ فِي الدُّنْيَا بِحَسَنَاتِهِ. وَإِنِ انْدَرَجَ فِي الْعُمُومِ الْمُرَاءُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَمَا تَرَى أَحَدَهُمْ إِذَا صَلَّى إِمَامًا يَتَنَغَّمُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، وَيُرَتِّلُهُ أَحْسَنَ تَرْتِيلٍ، وَيُطِيلُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ، وَيَتَبَاكَى فِي قِرَاءَتِهِ، وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ اخْتَلَسَهَا اخْتِلَاسًا، وَإِذَا تَصَدَّقَ أَظْهَرَ صَدَقَتَهُ أَمَامَ مَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَدَفَعَهَا لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا حَتَّى يُثْنِيَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَهْلُ الرِّبَاطِ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ.
وَأَيْنَ هَذَا مِنْ رَجُلٍ يَتَصَدَّقُ خُفْيَةً وَعَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، كما
جاء في: «السبعة الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظله، ورجل تصدق بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالَهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ»
وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ جِدًّا، وَإِذَا تَعَلَّمَ عِلْمًا رَاءَى بِهِ وَتَبَجَّحَ، وَطَلَبَ بِمُعْظَمِهِ يَسِيرَ حُطَامٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. وَقَدْ فَشَا الرِّيَاءُ فِي هذه الأمة فُشُوًّا كَثِيرًا حَتَّى لَا تَكَادَ تَرَى مُخْلِصًا لِلَّهِ لَا فِي قَوْلٍ، وَلَا فِي فِعْلٍ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ أَوَّلِ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النار يوم القيامة.

(١) سورة الإسراء: ١٧/ ١٨. [.....]


الصفحة التالية
Icon