أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ: لَمَّا حَكَى شُبَهَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا «١» ذَكَرَ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمُفَارَقَةِ فِي صِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّرِيقَ الدَّالَّ عَلَى إِمْكَانِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيقِ وَالْإِمْكَانِ، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَمَا يَجِبُ لَهُ وَمَا يَمْتَنِعُ، وَلَكِنَّهُ أَبْرَزَهُ عَلَى سَبِيلِ الْعَرْضِ لَهُمْ وَالِاسْتِدْرَاجِ لِلْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنِّي عَلَى حَقٍّ مِنْ رَبِّي لَقَالُوا لَهُ كَذَبْتَ، كَقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ «٢» الْآيَةَ فَقَالَ فِيهَا: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ. وَالْبَيِّنَةُ الْبُرْهَانُ، وَالشَّاهِدُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ الرَّحْمَةُ وَالنُّبُوَّةُ مُقَاتِلٌ الْهِدَايَةُ غَيْرُهُمَا التَّوْفِيقُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْحِكْمَةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ غَيْرُ الرَّحْمَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ الْمُعْجِزَةُ، وَبِالرَّحْمَةِ النُّبُوَّةُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ هِيَ الرَّحْمَةُ، وَمِنْ عِنْدِهِ تَأْكِيدٌ وَفَائِدَتُهُ رَفْعُ الِاشْتِرَاكِ وَلَوْ بِالِاسْتِعَارَةِ، فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ. الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الذَّمُّ لَهُمْ مِنْ أَنَّهُ أَتَى بِالْمُعْجِزَةِ الْجَلِيَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَأَنَّهَا عَلَى وُضُوحِهَا وَاسْتِنَارَتِهَا خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَلَبَهُمْ عِلْمَهَا وَمَنْعَهُمْ مَعْرِفَتَهَا. فَإِنْ كَانَتِ الرَّحْمَةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ فَعَوْدُ الضَّمِيرِ مُفْرَدًا ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا كَمَا اخْتَرْنَاهُ. فَقَوْلُهُ: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: فَعُمِّيَتَا. (قُلْتُ) : الْوَجْهُ أَنْ يُقَدَّرَ فَعُمِّيَتْ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ، وَأَنْ يَكُونَ حَذْفُهُ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إِمَّا عَلَى الْبَيِّنَةِ، وَإِمَّا عَلَى الرَّحْمَةِ، وَإِمَّا عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ. وَيَقُولُ لِلسَّحَابِ الْعَمَاءُ لِأَنَّهُ يُخْفِي مَا فِيهِ، كَمَا يُقَالُ لَهُ الْغَمَامُ لِأَنَّهُ يَغُمُّهُ.
وَقِيلَ: هَذَا مِنَ الْمَقْلُوبِ، فَعَمِيتُمْ أَنْتُمْ عَنْهَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: أَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَرَى الثَّوْرَ فِيهَا مُدْخِلَ الظِّلِّ رَأْسَهُ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَهَذَا مما يقلب، إذ لَيْسَ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَفِي الْقُرْآنِ: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ «٣» انْتَهَى. وَالْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ بَلْ مِنْ بَابِ الِاتِّسَاعِ فِي الظَّرْفِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَأَخْلَفَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَلَكَانَ يُضِيفُ إِلَى أَيِّهِمَا شِئْتَ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، وَلَوْ كَانَ فَعُمِّيَتْ

(١) سورة هود: ١١/ ٢٧.
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ٢٨.
(٣) سورة ابراهيم: ١٤/ ٤٧. [.....]


الصفحة التالية
Icon