وَيَا قَوْمِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ فِي قَبُولِ كَلَامِهِ، كَمَا تَلَطَّفَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: «يَا أَبَتِ يَا أَبَتِ» «١» وَكَمَا تَلَطَّفَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ: «يا قوم يَا قَوْمِ» وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْذَارِ. وَإِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ لَهُمْ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ «٢»، وَقِيلَ: عَلَى الدِّينِ، وَقِيلَ: عَلَى الدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَقِيلَ: عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُونَا سَوَاءٌ فِي أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَى اللَّهِ، وَإِنِّي لَا أَبْتَغِي عَمَّا أُلْقِيهِ إِلَيْكُمْ مِنْ شَرَائِعِ اللَّهِ مَالًا، فَلَا يَتَفَاوَتُ حَالُكُمْ وَحَالُهُمْ. وَأَيْضًا فَلَعَلَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْتِرْفَادَ مِنْهُمْ، فَنَفَاهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، فَلَا تَحْرِمُوا أَنْفُسَكُمُ السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ بِتَوَهُّمٍ فَاسِدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ قَامَ بِهَؤُلَاءِ وَصْفٌ يَجِبُ الْعُكُوفُ عَلَيْهِمْ بِهِ وَالِانْضِوَاءُ مَعَهُمْ، وَهُوَ الْإِيمَانُ فَلَا يُمْكِنُ طَرْدُهُمْ، وَكَانُوا سَأَلُوا مِنْهُ طَرْدَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ رَفْعًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مُسَاوَاةِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ. وَنَظِيرَ هَذَا مَا اقْتَرَحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرْدِ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قريش.
وقرىء: بِطَارِدٍ بِالتَّنْوِينِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلَى الْأَصْلِ يَعْنِي: أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ أَصْلُهُ أَنْ يَعْمَلَ وَلَا يُضَافَ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَصْلَ الْإِضَافَةُ لَا الْعَمَلُ، لِأَنَّهُ قَدِ اعْتَوَرَهُ شَبَهَانِ: أَحَدُهُمَا: شِبْهٌ بِالْمُضَارِعِ وَهُوَ شَبَهُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. وَالْآخَرُ: شِبْهٌ بِالْأَسْمَاءِ إِذَا كَانَتْ فِيهَا الْإِضَافَةُ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِجِنْسِهِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ. أَنَّهُمْ ملاقوا رَبِّهِمْ: ظَاهِرُهُ التَّعْلِيلُ لِانْتِفَاءِ طَرْدِهِمْ، أَيْ: إِنَّهُمْ يُلَاقُونَ اللَّهَ، أَيْ: جَزَاءَهُ، فَيُوصِلُهُمْ إِلَى حَقِّهِمْ عِنْدِي إِنْ ظَلَمْتُهُمْ بِالطَّرْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُلَاقُونَ اللَّهَ فَيُعَاقِبُ مَنْ طَرَدَهُمْ، أَوْ يُلَاقُونَهُ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ إِيمَانٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ كَمَا ظَهَرَ لِي مِنْهُمْ، وَمَا أَعْرِفُ غَيْرَهُ مِنْهُمْ، أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مِمَّا تَعْرِفُونَهُمْ بِهِ مِنْ بِنَاءِ إِيمَانِهِمْ على بادي الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَفَكُّرٍ، وَمَا عَلَيَّ أَنْ أَشُقَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَتَعَرَّفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ حَتَّى أَطْرُدَهُمْ وَنَحْوُهُ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ «٣» الْآيَةَ أَوْ هُمْ مُصَدِّقُونَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ، مُوقِنُونَ بِهِ عَالِمُونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوهُ لَا مَحَالَةَ انْتَهَى. وَوَصْفُهُمْ بِالْجَهْلِ لِكَوْنِهِمْ بَنَوْا أَمْرَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ بِالْعَوَاقِبِ، وَالِاغْتِرَارِ بِالظَّوَاهِرِ. أَوْ لِأَنَّهُمْ يَتَسَافَلُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَدْعُونَهُمْ أَرَاذِلَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ علينا. أَوْ تَجْهَلُونَ لِقَاءَ رَبِّكُمْ، أَوْ تَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ، أَوْ وَصْفُهُمْ بِالْجَهْلِ فِي هَذَا الِاقْتِرَاحِ، وَهُوَ طَرْدُ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِهِ. مَنْ

(١) سورة مريم: ١٩/ ٤٢، ٤٣، ٤٤، ٤٥.
(٢) سورة هود: ١١/ ٢، ٢٦.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٥٢.


الصفحة التالية
Icon